الملكية الدستورية هي الحل
قبل عامين اثيرت في الاردن ضجة سياسية كبيرة بعد ان طرحت فكرة الملكية الدستورية التي لم يتعامل معها الاعلام بسبب توجيهات عليا بالشكل المطلوب، بل انه جرى التعتيم على المبادرة بالكامل قبل ان تمارس الدولة ضد الداعين اليها ضغوطات واسعة لدرجة وصلت الى سجن ليث شبيلات في بداية التسعينيات لطرحه مثل هذه الفكرة، رغم ان التهمة الرسمية التي وجهت له كانت ( اطالة اللسان) ، وفي حقيقة الامر فانني قد دخلت الى موقع اكبر صحيفتين اردنيتين وهما ( الرأي) و(الدستور) وبحثت عن مصطلح الملكية الدستورية ولم اجد حتى مقال واحد تم نشره حول هذا الموضوع وهو ما يفسر لنا جهل كثير من الاردنيين به وعدم معرفتهم لمعنى الملكية الدستورية .
ان نظام الحكم في الاردن على عكس ما يدعي كثير من السياسيين والمحللين ليس ملكيا دستوريا، فهو نظام ملكي وراثي نيابي يحكم من خلاله الملك بموجب الدستور. ولكن ان تحكم بموجب الدستور لا يجعل من النظام السياسي لآلية الحكم ملكياً دستورياً، فالملك في الاردن يملك و يحكم. وهو ما يتعارض مع الملكية الدستورية التي تعني ان الملك يملك ولكنه لا يحكم كما الحال في بريطانيا و هولندا. وفي المادة الأولى من الدستور الأردني فان نظام الحكم هو نيابي ملكي وراثي وليس دستورياً، وان كان الملك يحكم بموجب الدستور. وهو اي الملك في الدستور الاردني مصون لا يمكن انتقاده وهذا امر لا اعتراض عليه في حالة الملكية الدستورية ذلك انه في هذه الحالة يكون الملك رمزا للدولة اما الذي يتمتع بسلطة الحكم فهو المعني هنا بالانتقاد وتحمل المسؤولية .
والاردن كنظام سياسي يقع في الوسط بين التصنيفات السياسية لـ(الملكية) فهو وان كان نيابيا فانه ما زال يندرج في خانة (الملكية المطلقة) حيث كل السلطات في يد الملك والملكية المطلقة نظام سياسي لا يصل الى درجة الملكية الدستورية كما الحال في بريطانيا وان كان متقدما على النظام السياسي السعودي القائم على (الملكية اللا نيابية) .
ان الاردن اليوم الذي يروج لديمقراطيته في العالم الغربي يواجه ازمة في موقع صنع القرار سواء الداخلي او الخارجي، وينحو في مستوياته العليا نحو مركزية مفرطة تجعل من الملك البوصلة التي يدور فيها الجميع بعيدا عن روح الابداع والابتكار. واذكر انه ابان حكومة عبدالكريم الكباريتي استدعيت شخصيا لدائرة أمنية، وقال لي ضابط انه لا يجوز لي انتقاد الكباريتي لانه خيار الملك وبانتقاده فانت تنتقد الملك ، وبتطبيق هذا المبدا فانه لا يجوز لي انتقاد الوزراء لانهم خيار من اختاره الملك فتكر السبحة الى انه لا يمكنك حتى انتقاد فراشا يعمل في دائرة حكومية. ومن هنا فان الدستور الاردني الذي يحصر السلطات في يد فئة معينة فانه يسرق السلطة من يد الشعب .
اقرار الملكية الدستورية هو تشكيل ل (عقد اجتماعي جديد) بين السلطة والشعب وإعادة حق مسلوب من الشعب لممارسة حقوقه السياسية عبر حكومة يشكلها الحزب الفائز في الانتخابات اما لوحده ان ملك النسبة المطلوبة او بالتحالف مع احزاب اخرى بما يضمن مزيد من الشفافية والحريات ويؤدي بالضرورة الى محاربة الفساد وتسريع عجلة التنمية .
لا نريد ان نحلق بعيدا ونحلم في اليقظة ولكننا نريد جلبابا يناسبنا من خلال الاستفادة من التجارب البشرية بما يمكن الاردن من التطلع للمستقبل، مع ادراكنا التام الى ان الدول ذات الملكية الدستورية لم تصل إلى ذلك إلا بعد أن مرّت من الملكية البرلمانية الثنائية، التي يتقاسم فيها الملك السلطة مع ممثلي الشعب .
ان الملكية في الاردن ليست هي الملكية في هولندا، بل ملكية متجذرة مارست الصلاحيات التنفيذية على مدى تسعين عاما خلقت لها هالة في ذاكرة الشعب الاردني يصعب محوها بجرة قلم او مبادرة سريعة، وانما يتطلب الامر اصلاح سياسي تدريجي. و هنا نذكر بما قاله الملك شخصيا :"مشروع الإصلاح والتطوير والتنمية السياسية هو مشروعنا، وبناء الديمقراطية هو خيارنا".و إلى أنه قال منذ سنوات "أنه لا يوجد إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي " .
و في الوقت الذي قامت فيه الدولة الاردنية ولا زالت باستيراد كل القوانين والاساليب الاقتصادية الغربية فانه لا تتوانى عن الترديد ان قوانين الغرب ودساتيرهم لا تناسب مجتمعنا عندما يطرح الحديث عن اصلاح سياسي. ولان المسائل ترتبط ببعضها البعض فان وجود صحافة حرة وبرلمان منتخب بقوانين ديمقراطية وبلا تدخلات واحزاب فاعلة ونقابات قوية هي الضمان الاكيد لهو اشتراط للمضي بالاصلاح السياسي، وهذا يتطلب تعديل الدستور الاردني برمته واعادة رسم الصلاحيات بشكل يعطي الشعب عبر السلطة التشريعية حقوقا في ممارسة مواطنته الحقيقية .
ان الاردن اليوم وكما كان طوال التسعين عاما الماضية يقوم على (حكومات لا تحكم ) و(برلمانات لا تراقب ولا تشرع) و(اعلام اعمى) او يدعي العمى فهو لا يسمع ولا يرى ولا هذا الأهم لا يتكلم و(احزاب هشة) باستثناء حزب الاخوان المسلمين الذي يتعرض لمضايقات الحكومة واعلامها في كل مرة يسعى فيه الى اقرار برامج اصلاحية سياسية او اقتصادية، و(نقابات محاصرة) من قبل الحكومة و(سياسيون يتملقون الاقتصاديين) للحصول على عمولات سرية و(اقتصاديون يتقربون من السياسيين) للحصول على تسهيلات غير قانونية .
ان الحكم في الاردن منذ بدايات تاسيس الامارة ومبايعة شيوخ العشائر ل (عبدالله الاول) اميرا على البلاد اوحى ان استقرار البلاد لا يستديم الا باستقرار عشائرها تحت ابط حكم حيادي و يحول دون تصادم قبلي اردني، ولذا سعى النظام الى تبني استراتيجية تحول دون تمجيد الاتباع الجدد عبر تهميش الشخصيات الاردنية. وهو لا يريد لاي كان ان يستمر في صدارة المشهد لاكثر من سنتين على اقصى حد .
لذا فانه عندما يسعى المحللون الى البحث عن اسباب اقالة اي رئيس وزراء فانهم يكذبون على انفسهم وعلينا عندما لا يلمحون الى استراتيجية (النظام) الازلية بان اي منصب في الاردن لا ولن يدوم طويلا حتى لو انجز صاحبه كل ما هو مطلوب منه. فالحكم في الاردن لا يشجع بل لا يرغب بالاحتفاظ بنفس الوجوه لفترة طويلة في اعلى منصب تنفيذي في البلاد حتى لو كان رئيس الوزراء منفذا جيدا للاجندة ، او حتى لو كان مخططا جيدا لافكار كتاب التكليف الذي جاء به الى الدوار الرابع. ولعلنا جميعا نتذكر تجربة عبدالكريم الكباريتي الذي أطيح به بسب اتساع نفوذه .
ان تكرار الحكومات مرده غياب الالتزام في القصر بصنع رجالات دولة لا يعملون لأنفسهم لإيمانهم بانهم لن يعمروا طويلا في مبنى الرئاسة. وقد اخبرني احد موظفي الاتيكيت في الرئاسة انه بعد عدة سنوات لن يجد العاملون في دائرة البروتوكول اية مساحة على جدران الرئاسة لوضع صورة لرئيس الوزراء الجديد. الحديث الدائر حاليا عن مصير الحكومة الاردنية يثبت غياب آليات تحديد رئيس الحكومة وموجبات استمرارها وإقالتها في البلاد، لان الدستور حصر بالملك وحده حق تعيين رئيس الوزراء وإقالته، وهو الامر الذي يجعل ايجاد الية لاختيار رئيس الوزراء او الانطلاق نحو الملكية الدستورية امرا لا يريده النظام.
مع خلافة العرش التي حدثت عام 1999، زادت توقعات الرأي العام بمزيد من الإصلاح السياسي لا سيما بعد التزام العهد الجديد بإعادة مسيرة الإصلاح، رغم انه كان ولا يزال يرفض المشاركة السياسية بعد رفضه الدائم لحل البرلمان واقالة رئيس الوزراء رغم المطالب الشعبية، في اشارة الى ان القصر والقصر وحده هو من يملك الاجندة وهو من يملك الرزنامة السياسية المتعلقة بتوقيت اتخاذ القرارات الكبرى .
وفي الواقع فانه هناك فجوة هائلة بين لغة خطاب الإصلاح عند الملك والسياسات الفعلية للدولة التي تبدو كمن يفعل كل ذلك لتسويق ديمقراطيتها لدى الغرب لجلب المساعدات الاقتصادية وحسب. فبينما تتراجع عملية الإصلاح السياسي، فان أولويات الاصلاح الاقتصادي لدى النظام تحتل راس الاجندة ، حيث يسمح النظام الأردني بمساحة لانتقاد السياسات الداخلية، ولكنه يتخذ عبر أجهزة الأمن تدابير قاسية لمن يجرؤ على توجيه انتقادات تتجاوز الخطوط الحمراء مثل طروحات الملكية الدستورية واختيار رئيس الوزراء بالانتخاب، بل ان الخصخصة وهي موضوعة اقتصادية لا يمكنك الاقتراب منها دون اتهامك بانك ضد النظام .
المعارضة تطالب بشكل متزايد بحكومة منتخبة ديموقراطيا من رئيس الوزراء والوزارة منتقاة في الجزء الأعظم منها من البرلمان المنتخب نفسه أكثر من كونهم معينين ، فيما يسعى بعض مسئولي النظام لتصوير المسالة على انها صراع جغرافي بين الشمال والجنوب في المملكة، أو اقليمي بين الاردنيين الاصليين والاردنيين من اصل فلسطيني في محاولة لتشتيت التركيز عن القضايا الأعمق للتمثيل الديموقراطي. وقد تلقيت خلال الايام الماضية الكثير من الاتصالات من مواطنين اردنيين يعبرون عن دعمهم للملكية الدستورية لكنهم في الوقت نفسه عبروا عن مخاوفهم من سيطرة الفلسطينيين على منصب رئاسة الوزراء او استحواذ الاسلاميين عليه، وهي ردة فعل تؤكد ما ذكرته من ان استراتيجية الحكم شتتت الانتباه عن القضايا الاعمق ، وهنا فانني لا يهمني ان سيطر الاسلاميون على منصب الرئاسة عن طريق الانتخابات لان هذا يعني الاحتكام الى ما دأبنا ننادي به وهو الديمقراطية وحرية الاختيار في الاساليب بغض النظر عن النتائج، وهو ما ينطبق ايضا فيما لو تولى الرئاسة فيي ظل الملكية الدستورية اردني من اصل فلسطيني لانه بالنسبة لي كما ذكرت سابقا في عدة مقالات اردني واردني فقط .
بعد 42 رئيس وزراء شكلوا 72 حكومة في بلد لم يزد عمره عن المائة عام، وبعد ان حكمه اربعة ملوك دام حكم ثالثهم نحو نصف قرن فان السر وراء كل هذه التعيينات والإقالات هو تثبيت حكم الفرد الواحد وبقاء الخلود لرمز واحد، بعيدا عن اكذوبة الإعلام القائلة بعدم الالتزام بكتب التكليف والاجندات الملكية .