المعلمون والحكومة: الحل بانتظار "وساطة مجتمعية"

المعلمون والحكومة: الحل بانتظار "وساطة مجتمعية"

ما تزال ثمة فجوة بين "اللجان الوطنية لإحياء نقابة المعلمين"، وهي الهيئة التمثيلية لمعلمي الحكومة التي قادت تحركهم الأخير، وبين الحكومة التي أبدت مؤخراً ليونة ظاهرة ومحاولات ملموسة للاقتراب من مطالب المعلمين النقابية عن طريق الوعد بإصدار نظام يسمح بانشاء روابط للمعلمين في جميع مديريات التربية والتعليم، إضافة إلى الإعلان عن حفنة من الإجراءات الهادفة إلى تحسين الأوضاع المعيشية والمهنية للمعلمين ومنحهم بعض الامتيازات الأخرى.

فاللجان الوطنية لإحياء نقابة المعلمين كانت قد عقدت يوم الجمعة الماضي، 24 نيسان المنصرم، اجتماعاً لها في مجمع النقابات المهنية في الكرك، وأعلنت في بيان أصدرته عن تمسكها بمطالب المعلمين المشروعة كافة، ولا سيما احياء نقابة المعلمين، ورفضهم القاطع لمفهوم روابط المعلمين الذي اقترحته الحكومة في أواسط نيسان، حيث اعتبرته وسيلة "لتخدير مشاعرهم"!

ظاهرياً تبدو الفجوة بين الطرفين واسعة، وقد يعتقد البعض أنها غير قابلة للردم أو التسوية. لكن التدقيق في تفاصيل الموقف الحكومي، وكذلك موقف المعلمين ولجانهم الوطنية يظهر ان لدى الطرفين ما هو أهم من نقاط الاتفاق أو الاختلاف.

يجب الاعتراف أولاً بأن الموقف الحكومي من مطالب معلمي الحكومة قد تطور إيجابياً، وبتسارع غير مألوف. فبعد البدايات غير الموفقة وحتى المتعنتة التي وسمت سلوك وزارة التربية والتعليم، حظي المعلمون بشحنة عارمة من الاحتضان والرعاية من جانب الملك ورئيس الوزراء، وتم ترجمة هذا الاقتراب الحكومي من مطالب المعلمين من خلال اللقاء الذي عقده نائب رئيس الحكومة د. رجائي المعشر، في أواسط نيسان الماضي، مع لجان المعلمين في مختلف المحافظات، بحضور وزير الدولة للشؤون البرلمانية توفيق كريشان ووزير التنمية السياسية المهندس موسى المعايطة.

اللقاء المذكور كشف عن استعداد الحكومة لتقديم حزمة متكاملة من المكاسب لقطاع المعلمين، تتضمن: علاوة سنوية على الراتب وبأثر رجعي من بداية العام الحالي؛ وضع أُسس لتوزيع عادل للمنح والبعثات الداخلية والخارجية للمعلمين؛ الأولوية لهم للاستفادة من المرحلة الأولى لمبادرة "سكن كريم لعيش كريم"؛ إشراك المعلمين في صياغة التشريعات الخاصة بالعملية التربوية والتعليمية؛ منح أبناء المعلمين بعض المزايا للدراسة في الجامعات الرسمية.

لكن الفجوة الرئيسية التي ما تزالت تفصل الحكومة عن لجان المعلمين هي تشبثها بالاعتقاد أن انشاء نقابة للمعلمين أمر محسوم بالرفض، استناداً لقرار المجلس العالى لتفسير الدستور، سنة 1994. في المقابل عرضت الحكومة إمكانية إصدار "نظام بقوة القانون"، بموجب المادة 120 من الدستور والمادة 45 من قانون التربية والتعليم، لينص على إنشاء روابط للمعلمين في جميع مديريات التربية والتعليم، أي 42 رابطة، بعدد مديريات التربية والتعليم. هذا، وتضمن اقتراح الحكومة أن تضم كل رابطة ما بين 5 و 7 معلمين، ينتخبون عنهم رئيساً ونائباً له، بحيث يجتمع هؤلاء تحت اسم "مجلس اتحاد روابط المعلمين".

وحسب وصف د. المعشر فإن الاتحاد في حال اقراره سيقوم بجميع مهام النقابة التي تشمل تنظيم عمل المعلمين وايصال وجهة نظرهم إلى صناع القرار؛ المساهمة في تعديل التشريعات والأنظمة الخاصة بهم وتحسين أدائهم المهني والأكاديمي ورفع مستواهم المعيشي وحماية حقوقهم؛ تحقيق العدالة بينهم في توزيع العلاوات والامتيازات، وإشراكهم في صياغة التشريعات التربوية والتعليمية؛ تشجيع المبادرات والتعاون مع اتحادات المعلمين في الدول العربية الشقيقة والأجنبية؛ تنظيم المؤتمرات والندوات وورش العمل لرفع سوية المهنة والارتقاء برسالة التعليم ... إلخ. ولو التزمت الحكومة حقاً بهذه الوظائف لاتحاد روابط المعلمين فما من فرق بينه وبين النقابة سوى التسمية.

من ناحية أخرى لا نعتقد أن السيد مصطفى الرواشدة، الناطق الرسمي باسم اللجان الوطنية للمعلمين الحكوميين يطالب باحياء النقابة التي كانت موجودة في الخمسينيات من القرن الماضي لأسباب رومانسية وعاطفية، أو تشبثاً بماض تليد! فهو رجل عملي على ما يبدو، إذ ثمن الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لتحسين ظروف معيشة المعلمين واوضاعهم المهنية وحرصها على كرامتهم، وتقدم بقائمة مطالب ملموسة في هذا المجال، مثل تعديل سلم الرواتب للمعلمين ودعم صندوق إسكان المعلمين وتشكيل لجان من المعلمين للإشراف على أمواله ورفع مستوى التأمين الصحي. وطالب بتدريس أبناء المعلمين في الجامعات الرسمية على نفقة الحكومة وإشراكهم في صياغة التشريعات التربوية والسماح للمعلمين الحاصلين على تقدير مقبول في البكالوريوس بدراسة الدبلوم العالي في التربية، ومنحهم اعفاءات جمركية وعددا من العلاوات مثل علاوة الرخصة الدولية لقيادة الحاسوب منذ الحصول عليها ... إلخ.

وبالعودة الى اجتماع الكرك، يوم 24 نيسان المنصرم، والذي شاركت فيه أربعون لجنة تمثل محافظات وألوية المملكة، لا نجد تعنتاً من جانبهم بقدر ما نجد تمسكاً متوقعاً بمطالبهم الأصلية، فهم يعتبرون أن "نقابة المعلمين حق دستوري لهم"، وهم لا يطالبون بإنشاء نقابة لهم وإنما بإحياء نقابة كانت موجودة سابقاً وتم حلها بسبب أوضاع البلد السياسية حينذاك. يقول مصطفى الرواشدة إن الأسباب الموجبة لحل النقابة قد زالت، طالما أننا نعيش أجواء من الحرية والديمقراطية، وبحسب الرواشدة فانه لا يوجد في الدستور ما يمنع المعلمين من إنشاء نقابة لهم ما دامت الغايات مشروعة ولا تخالف القوانين، كما أن الاتفاقيات الدولية والعربية الخاصة بحقوق الإنسان ضمنت هذا الحق للمعلمين. وتقول السيدة أدمي زريقات، عضو اللجنة الوطنية لمعلمي التربية والتعليم، إن قرار المجلس العالي لتفسير الدستور "لم يكن دقيقاً" عندما قرر عدم جوازية إنشاء نقابة للمعلمين.

دعاة إحياء نقابة المعلمين شددوا في بيانهم انهم ليسوا تابعين لجهة ما على حساب بقية أبناء الوطن، وهم يؤكدون أن المعلمين هم "جنود أوفياء للوطن"، كما رفض هؤلاء "إلباس كسوة سياسية أو حزبية" لمطالبهم، ويرون في ذلك "ذريعة لحجب الأصوات وإسكاتها بحجج واهية"، كما انهم – أي المعلمون – يرفضون اعتبار قضيتهم "قضية أمنية"، ويرفضون تدخل الأجهزة الأمنية في ملاحقة المعلمين، على خلفية حراكهم النقابي ومطالبهم المشروعة.

وفي المقابل أظهر لقاء الكرك أن ليس لدى اللجان الوطنية لمعلمي التربية والتعليم لون أو رأي واحد، وإنما وجهات نظر واجتهادات متعددة، وهو ما يفسر عجز الاجتماع عن إصدار بيان ختامي عن المشاركين في المحاولة الأولى لهم، لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن همهم واحد وهو إحياء نقابتهم.

ولا يسع المراقب إلا أن يلاحظ أن هناك متسعا لتقليص الفجوة بين الطرفين؛ فالمعلمون، كما يبدو، غير متعجلين في مطالبهم، وهم لا يمانعون في منح الحكومة مهلة زمنية حتى نهاية أيار الحالي، ويتوقعون منها أن تتخذ خطوات إجرائية تنعكس على حياة المعلمين المعيشية والمهنية وعلى حقوقهم ومكتسباتهم، لا بل أعلن بيان المعلمين عن احتفاظهم بحقهم في "إعلان مواعيد جديدة بناء على مواقف الحكومة الإيجابية من قضيتهم". أي أنهم مرنون في التعامل مع الحكومة ومستعدون لإعطائها المهل الزمنية اللازمة لتنفيذ مطالبهم.

الخلاصة هي أن الطرفين، الحكومة ولجان المعلمين الوطنية، أظهرا حصافة وسعة صدر متبادلة واستعدادا واضحاً للتفاهم، رغم اتساع الشق الظاهر بين ما يقبله المعلمون وبين ما تعرضه عليهم الحكومة. ذلك انه ما تزال لدى الطرفين مخاوف متبادلة؛ فالمعلمون يخشون أن تتحول الروابط المقترحة عليهم إلى وسيلة شكلية لامتصاص غضبهم وإلى أداة لتنفيس مطالبهم، كما حدث مع صيغة "نوادي المعلمين" في نهاية الثمانينيات، بينما تخشى الحكومة أن يفتح قبولها بالنقابة باب التنازلات، ما يشجع المعلمين (وغيرهم من موظفي الدولة) على ممارسة المزيد من الضغوط النقابية والمطلبية عليها.

لقد آن الأوان لأن تتدخل أطراف أخرى لتقريب الشق بين المعلمين والحكومة والمساعدة على بناء جسور الثقة بين الطرفين، وذلك باقتراح آليات وأطر عملية تساعد على طمأنة المعلمين إلى صدقية التزام الحكومة بما وعدت به، من خلال جداول زمنية للتنفيذ وتشريعات ملزمة، وبالمثل هناك حاجة لطمأنة الحكومة إلى "عقلانية" مطالب المعلمين ومعقوليتها من الناحية العملية. ولعل المجلس الاقتصادي والاجتماعي يبادر إلى شيء من هذا القبيل.

لقد فشل المجتمع الأردني في التضامن مع المعلمين في تحركهم الأخير، وعجز المجتمع المدني بالمثل عن توفير مظاهر المساندة اللازمة لهم، بل إن أصحاب المهنة ذاتها من المعلمين، لم يكونوا موحدين في موقفهم من الإضراب. واليوم فإن على مؤسسات المجتمع أن تقوم بواجب التقريب والمناصحة وبناء الثقة بين الطرفين، لا لشيء سوى أن قضية المعلمين هي قضية المجتمع الأردني بأسره، فالانتصار لهم ليس انتصارا على الحكومة أو انحيازا ضدها، بل هو على النقيض تماما يمثل انتصارا للعدالة والحقوق الإنسانية والدستورية المشروعة للأردنيين جميعاً.

الغد

أضف تعليقك