المزاج العام

المزاج العام
الرابط المختصر

من المرجح أن هناك صلة قربى من الدرجة الأولى بين ما درجنا على تسميته بالرأي العام، وبين مصطلح سوسيولوجي أقل شيوعاً من ابن عمه ذائع الصيت، اسمه المزاج العام. ومع أن الأول مكتمل القوام واسع التداول كأوراق البنكنوت الرديئة، فإن الثاني بحضوره الباهت يكاد لندرة استخدامه يشبه العملة الصعبة.

وفيما يمكن تحديد ماهية الرأي العام والتعرف عليه بطرق قياس إحصائية حديثة، احتكرت براءتها العلمية مراكز استطلاع متخصصة ومؤسسات أبحاث تقدم خدماتها لطالبيها من رجال السياسة والمال والأعمال، فإنه يصعب في المقابل تشخيص مكونات المزاج العام أو استخدام مسطرة تعريفية خاصة به.

ورغم ذلك كله، فإنه يمكن المجازفة بالقول إن المزاج العام هو الحالة الشعورية السائدة لدى مجتمع بعينه، في مرحلة زمنية محددة، إزاء قضية مشتركة، حيث يجري التعبير عن هذا المزاج من خلال الأقوال والأفعال والأحكام الشفاهية المتواترة على ألسنة العامة من دون تمحيص، لا سيما في الأوساط الاجتماعية سريعة الانفعال بما تسمع لا بما تراه رؤية شاهد عيان.

وكلما كان المجتمع مفتقراً إلى الشفافية والتعددية والحريات، لا سيما حرية التعبير، دارت ماكينة صنع المزاج العام بسرعة أكبر، واشتدت دينامياتها الغامضة في إنتاج وإعادة إنتاج الترهات والإشاعات ومصادر المعلومات فقيرة الإسناد، وحلت إثر ذلك الافتراضات المسبقة والاستنتاجات الساذجة، ناهيك عن الهوى الذاتي، محل الحقائق والوثائق والبيانات الممهورة بخاتم الصدقية والثبات.

وكما يتغير الرأي العام بين مرحلة وأخرى، وتتبدل فيه آراء المستطلعين وتتحول وجهات نظرهم بفعل عوامل موضوعية مؤثرة على التقديرات السائدة في زمن ما، يتغير كذلك المزاج العام وفق آليات خاصة به، تعمل ببطء شديد، حتى لا نقول إن قاطرة هذا المزاج تميل عادة إلى الركون طويلاً في محطة الانطلاق، حتى بعد امتلاء عرباتها بأكداس البضائع والمسافرين.

تأسيساً على ذلك، أحسب أن المزاج العام السائد لدينا في هذه الآونة، بات لشدة أواره كمادة اليورانيوم عالي التخصيب، بعد أن جرى الاشتغال عليه في آلات طرد مركزي بلا حصر، بعضها خارجي المنشأ جرى تصنيعه في ورشة الخراب ومعمل الاستعصاء وانسداد الآفاق الإقليمية، وبعضها الآخر داخلي أنتجته فبارك البطالة والفقر وسوء توزيع الثروة والفراغ السياسي والعصبيات الجاهلية والهويات الجهوية، وما إلى ذلك من مخصبات.

ومع أن صلة النسب، كما قلنا، قوية بين الرأي العام والمزاج العام، إلا أن المفارقة الفارقة تتجلى بكامل قسماتها الحادة عندما نجد أن الرأي العام أكثر اعتدالاً، وأوسع تسامحاً، وأشد قابلية للاستجابة إلى الحقائق الموضوعية، من ابن عمه المزاج العام، المنجرف أكثر فأكثر نحو الاحتدام والتعصب والانغلاق، وفق ما تشي به سلسلة طويلة من الظواهر السلبية المتفاقمة، لا سيما في الجامعات وملاعب كرة القدم والشوارع الخلفية.

ومع أن لمثل هذه الظواهر المقلقة والمشاهد البائسة جذوراً عميقة ضاربة في التربة السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ أمد طويل، وأن أغصان شجرتها السامة ما تزال غضة وقابلة للتقليم بسهولة، فإن ما يخشى منه حقاً هي الأعشاب الشوكية الضارة بمزروعات الحقل الوطني، أي تلك الشجيرات التي نمت في غفلة من الجميع، واشتد عودها بعض الشيء جراء الإهمال، وترك الهوامش حول "الاستبلاشمنت" نهباً للمأزومين والمتطرفين وأصحاب الرؤوس الحامية. بكلام آخر، فإن هذا الاحتدام الذي لا يخلو من يأس ولا يشكو من قلة إحباط، وكل هذا التفلت على المشتركات والقيم والقانون والنظام العام، هو في مبتدأ الخبر ومنتهاه من صنع ماكينة المزاج العام، ومن حصيلة تفاعلات غض البصر المديد، والميل المفرط إلى تأجيل المعالجات وطرح المبادرات، والعزوف الذي لا مبرر له عن أخذ الزمام والتقدم إلى الأمام، من جانب الدولة والحكومة والمجتمع سواء بسواء.

الغد