المحاسبة قبل الثقة..

المحاسبة قبل الثقة..

ليست إعادةُ الثقة ما تحتاجهُ البلادُ الآن. المعروفُ أنَّ الأردنيينَ لا يثقونَ بالدولةِ، وهم يقصدونها بالنقد وبالسخطِ، حينما يعارضون الحكومة، لأنهم يعرفون أنها المؤسسة الأكثر ضعفاً، بين السلطات الأردنية، ولكنها متاحةٌ لامتصاصِ النقمةِ، ومن بابِ الخداعِ الذاتيّ، فهي "صاحبةُ الولاية العامة" دستورياً.

الأردنيون ملتصقون بالجيش، لأنهم حريصون على نجاةِ البلاد من عاصفةٍ إقليمية، ما تزالُ في بدايتها. وكثيرٌ منهم إمّا جنديٌّ، أو متقاعد، أو من عائلة عسكرية. ما يزالُ النَّاسُ يثقون الجيش، وليس أي مؤسسة أخرى، ونقاشهم حول الأوضاع الاقتصادية الآن يؤكدُ ذلك. سقوفَ الكلام الأردني الآن أعلى من التدابير الأمنية، فالتشبيكُ الاجتماعيّ الطبيعيُّ بحكم صلات الدم، سبقَ الرقميّ، وهو يتحرّكُ الآن لإسقاط الحكومة، ومثله الجدلُ الشرسُ على المنصات الالكترونية. 

ليست الثقة. فهذه دمرتها الأحوال المعيشية، والاختراقات الأمنية، وضعف قدرة الإدارة العامة على لجم الفساد، واستيعاب ارتدادات المديونية، وما إلى ذلك من تواصل الهلع الحكومي من وصفات صندوق النقد الدولي.

الثقة كانت تعبيراً حماسيّاً، مثل الأغاني والأهازيج والإنشاء الوطنيّ. الآن، يُرِيدُ الأردنيون، ومعظمهم فقراءُ حسمَ الصراع الداخليّ لصالحهم، وإفهام مراكز النفوذ في الدولة أنَّ الثقةَ التقليدية لا تعني إنكار المحاسبةِ بين الشركاء، فالاختلالُ لا يحتاجُ شرحاً، والإفقارُ سياسةٌ، وليست صدفة. ثمةَ مَنْ يعيشُ بالكاد، وثمة مَنْ يسخر من مبدأ الشراكة، ويستولي على حصصها، نهباً حتى حدود الإفلاس، وليس من اكتشافٍ أنَّ الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها الإسلامية عاجزة عن الفعل والمجاراة والسيطرة، وأقصى ما يمكنها انتظارُ تقدّم الشارع، واقتناص الفرصة لقيادته، كما جرت العادة في الدول التي تُفضّلُ التفاهمَ مع القبيلة والكهنوت، على التقارب مع الجمعية والحزب والنقابة.

الحراكُ لإسقاطِ الحكومة بدأ قويّاً في الكرك، وثمة تحشيدٌ هذا الأسبوع، وحملات لانطلاقه في أكثر من محافظة ومدينة وبلدة. هذه المرَّة هو أعمق خبرةً وتدريباً من حراك 2011 نسبيّاً. لقد اكتسب مهاراتٍ سياسية، وقدرةً على صياغة العناوين والتفاصيل. لكنَّ التنظيم يظلُّ معضلتهُ الرئيسيّة، ومنها تُطلُّ مخاوف التطرُّف الدينيّ، والقبليُّ، وينشط البارعون في رياضة ركوب الأمواج.

يعرفُ الأردنيون أنَّ موجة ارتفاع الأسعار والضرائب نتيجة فشل عميق، في أكثر من مستوى، ويستطيعون تحديد مفاصل المعضلة، وتسمية أسبابها والمتسببين بها، حتى خامس جدّ، وقد قطعوا مرحلة أبعد من الشكوك في فهم سلوك الدولة. باتوا على يقينٍ بوجوب تغيير شروط اللعبة، ومواقع اللاعبين، ما دام الملعبُ نفسه مهدداً، على نحو لا سابق له. ولا يخفى، أنّ السلطة نفسها تدركُ بأنَّ الثقةَ أصعبُ من أنْ تسعى إلى استعادتها، فلا تحاولُ. ذلك يتطلبُ ثمناً لا تستطيعُ دفعه، والرأي العامُ لا يملُّ من اختبار الدولة، وهو واثقٌ بإخفاقها.  

السلطة، ليسَ أمامها إلا التمركز والحذر والاحتواء في التعاطي مع حراكات هذا الربيع. ومن المستبعد أنْ تلجأَ إلى الشدّة والردع، وإذا حدثَ ذلك، فإنَّ البلادَ مقبلةٌ على تصادمٍ، لا يُشبهُ إلا الكارثة..

باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.

أضف تعليقك