الماراثون على قشاط متحرك
الخطابات المستفيضة حول الموازنة العامة لن تختلف هذا العام إلا في شيء واحد، وهو أنها تناقش موازنة فات أكثر من نصف عمرها! إنه ماراثون على قشاط متحرك. والمشاكل هي نفسها، مع فارق كمي في نسبة التدهور في كل بند؛ الزيادة في الدين الداخلي، في الدين الخارجي، في عجز الموازنة، في عجز الميزان التجاري، في نسبة التضخم.. إلخ.
ومن الطريف أن الزيادة في أسعار الكهرباء التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، لن تغير كثيرا. فبحسب أرقام الحكومة، يناهز عجز شركة الكهرباء الوطنية هذا العام مليارا و200 مليون دينار، ستحصل الحكومة منها بزيادة الأسعار على 57 مليون دينار فقط؛ أي نصف نقطة مئوية تقريبا! والعام المقبل بطوله نقطة مئوية واحدة. وهذه الأرقام أدهشت النواب، وجعلتهم يتساءلون: لماذا تتحدث الحكومة عن الكارثة القادمة إذا لم يتم الرفع، بينما الرفع المقترح لن يعيد حتى في العام المقبل أكثر من 1 % من قيمة الخسائر؟!
بحسب رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، لن يكون هناك أي رفع هذا العام على كهرباء المنازل. وفي العام المقبل وكل الأعوام التالية، ستبقى الفاتورة التي دون الخمسين دينارا بنفس السعر؛ وبالكيلوواط ستبقى الـ600 كيلوواط الأولى بنفس السعر القديم، وسيتم وضع زيادة 15 % فقط على المبلغ الزائد على أول 50 دينارا؛ أي إذا كانت الفاتورة 60 دينارا، فستكون هناك زيادة دينار ونصف الدينار على العشرة دنانير الأخيرة. وبحسب وزير الطاقة، فإن الزيادة ستشمل أقل من 10 % من السكان. وبإعفاء القطاع الزراعي والصناعي الصغير من الرفع، يبدو أن ما ستحصّله الحكومة سيأتي أساسا من القطاع التجاري والمالي والمؤسسات الكبيرة.
لماذا إذن هو علاج لا مناص منه؟! النسور شرح المعادلة في مدى أبعد، فقال إن الوفر في العام بعد المقبل سيصل الى 260 مليون دينار، وسيتحسن تعويض الطاقة من مصادر أخرى، وستنخفض الخسائر إلى 500 مليون دينار بدلا من مليار دينار. ولكن هذا الحسابات مثل حسابات الخسائر نفسها، وطريقة تسعير الكهرباء، وحتى تسعيرة مشتقات النفط؛ ليست مفهومة ولا مهضومة من الرأي العام، وتُضاف إلى تضعضع مستوى الثقة العامة بالحكومات وما تعلنه من وقائع وأرقام.
الرئيس النسور يبرر خطته على أساس أنه يواجه وضعا موروثا لا يد له فيه. لكنه وقد أصبح رئيسا للوزراء، فإنه مسؤول عن معالجته، ولن يقبل الهروب منه وتوريثه لمن يأتي بعده. لكن هذه الفروسية لا تقنع كثيرا الرأي العام؛ فهو لا يرى الحكومات إلا امتدادا لبعضها، وجيب المواطن هو وسيلتها المتكررة، ولا يلمس وجودا للإصلاح أو للثورة البيضاء المنشودة.
نكاد نرى الرئيس في نفس الموقف عند كل المحطات. فهو اضطر إلى المضي قدما في انتخابات نيابية بقانون موروث ومفروض عليه؛ وسينفّذ الانتخابات البلدية بقانون موروث ومفروض عليه؛ وقد حجب المواقع الإلكترونية بقانون موروث ومفروض عليه؛ وينفذ إجراءات اقتصادية بسبب واقع موروث وبموجب تفاهمات (مع صندوق النقد الدولي) متفق عليها ومفروضة سابقا. أين ومتى سنجد الإصلاح والثورة البيضاء بهكذا سياسة واقعية ملتزمة بما هو موروث من الحكومات والسياسات السابقة؟
الغد