الله والإنسان والنَّص

الله والإنسان والنَّص

في نهاية الخمسينات من القرن الماضي ظهر اتجاه يدعو إلى التعامل مع النصوص اللغوية بوصفها رسالة تؤدي وظيفة الاتصال، وكان من رواد هذا الاتجاه عالم اللغة الروسي رومان ياكبسون، إذ حاول أن يخرج من النظرة التقليدية في التحليل اللغوي نحو منهج أكثر قدرة على تحليل عملية الاتصال التي تقوم على اللغة، وتتشكل من ثلاثة عناصر؛ المتكلم والموضوع والمتلقي، وقد كان التحليل النقدي القديم للنص يقوم على الاحتفال بالكاتب أو المتكلم بوصفه العنصر الأهم والمنتج في عملية التواصل اللغوي، لذلك كان هو المحور الرئيس في إنتاج النص، وهو المبدع والقادر، ثم أخذ النص جزءاً من الاهتمام، بوصفه الموضوع الذي يتضمن الأفكار، ويعبر عن إبداع كاتبه، وبقي المتلقي غائباً.

 

هذه النظرة للنصوص الأدبية بقيت مسيطرة على نظرة الإنسان مدة طويلة من الزمن، ويبدو أنها كانت مرهونة للواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي كان سائداً في الحضارت القديمة، وهو متأثر أيضاً بالنظرة إلى النص الديني، حيث يمتلك محتواه وقائله قداسةً كبيرةً، فهو من الله وهو كلام الله، لذا يصبح الإنسان في المعادلة هو الحلقة الأضعف، وليس له دور إلا السمع والطاعة لكل ما يلقى عليه، لأن ما يسمعه هو نص مقدس متعال من الله المقدس المتعالي. فكان من نتاج ذلك أن بقي الإنسان غائباً عن التأثير في النص، ويقتصر دوره على القراءة والتفسير والتطبيق، أي أنه متلق سلبي مطيع، ليس له رأي، فلا اجتهاد في موضع النص.

 

ويبدو أن التعامل مع النص الديني قد فرض هيمنته على عقل الإنسان مدة من الزمن إلى أن جاء العصر الحديث بقيمه الجديدة، ونظرته للإنسان ودوره في الحياة، فقد كان الجمهور في الأنظمة السياسية القديمة –على سبيل المثال- غائباً عن المشاركة في صنع القرار أو اختيار الحاكم أو القوانين التي تحكم، كما أن المتلقي لا يملك القدرة على التأثير في النص، ولا دور له فيه، فكما كان دوره غائباً في السياسة كان يغيب في النص أيضاً، وأعتقد أن هناك ربطاً واضحاً بين الظاهرتين، إذ إن تحولات التحليل النقدي للنصوص قد بدأت تتغير مع تغير النظرة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، والنظرة لشكل الدولة وقوانينها وعلاقاتها وهدفها ودورها.

 

إن نظرية ياكبسون في النظرة للنصوص لها علاقة بالواقع السياسي وفكرة الدولة الحديثة، التي تقوم على المشاركة السياسية للجمهور (المتلقي)، وتغير دور الحاكم (الكاتب) في علاقتهما بالنص، فهما طرفان يتشاركان في إنتاجه وإعادة تأويله بحسب الظروف والسياق، ومن هنا ظهر في الدراسات اللغوية الحديثة حقل تحليل الخطاب، وهو يقوم على تأويل النص بما لا يهمل أي عنصر من عناصره، لأن الهدف من النص تبليغ رسالة، وهو هدف تواصلي، لذا فإن أركانه هي: المتكلم والموضوع والمتلقي، إضافة لمتغيرات المكان والزمان والظروف.

 

وصار علماء اللغة يرون أن الدرس اللساني يدلنا على أن اللغة ليست نظاماً فردياً، إنما نظام جماعي تنتج فهمه الذاكرة الجمعية للناس، وأن غايته اكتشاف حكمة واضع اللغة ونظامها، كما يتحدد مدلول أي لفظ من الألفاظ، ودلالة مصطلح من المصطلحات في السياق الذي تم فيه التلفظ بهما واستخدامهما، وهذا ما يبيح الكلام عن دلالية سياقية ترتبط بمقام معين، ولذا صار الحديث في التحليل اللغوي عن ثلاثة عناصر (الكاتب والنص والمتلقي)، وهي في النص الديني (الله والنص والإنسان).

إننا اليوم لا نستطيع الحديث عن كاتب ونص فقط، ولا يمكن لنا فهم النص بعيداً عن القارئ والمتلقي، ومن هنا يظهر أن تفسير النص الديني قد أغفل عنصراً مهماً من عناصر العملية التواصلية، وهو الإنسان، وبقي النص الديني محكوماً لتفاسير جزئية أحادية، تقوم على التفسير الجزئي للمفردات ولا تعطي الدلالة الكاملة للنص، وهو ما يفسر لنا أيضاً التعصب والانغلاق في أفكار الجماعات والطوائف في نظرتها لتفسير النص الديني وفهمه، فكل فرقة ترى أنها تملك الصواب في الفهم، لأنها تغيب دور الإنسان وظروفه وزمانه وسياقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية. والسؤال اليوم: هل يحضر الإنسان في قراءة النص الديني بوصفه منتجاً وفاعلاً؟ أم يبقى بوصفه متلقياً سلبياً لا حول له ولا قوة؟

 

  • د. يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.
أضف تعليقك