اللامركزية.. هل ولدت ميتة؟

اللامركزية.. هل ولدت ميتة؟

نحن هنا كسائر بلدان العالم الثالث، تأخذنا الحماسة للتجديد، لكننا نريده من دون تكاليف، فنحن مأخوذين أكثر ببهرجة وشكل الجديد الخارجي، وليس بجوهره، حالنا حال متتّبع الموديلات، نلاحقها بتغيراتها، فتفقد الأشياء بريقها في عيوننا وهي في عزّ جِدتها، بسبب ما يزاحمها من عروض أخرى متلاحقة وأكثر جدّة منها، وهكذا نستمر باللهاث وراء الجديد من دون اعطاء أي مرحلة استحقاقاتها الكاملة.

لكن الحقيقة الأكثر جذرية؛ هي ان مراكز القرار في الدولة لجأت إلى منهج اللامركزية كحلّ وسط، بعد أن تمّ رفض مشروع تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم، وهو مشروع تحمّست له مراكز الدولة وأظهرته حلاً سحرياً لجميع مشاكل ومعوقات التنمية، حيث كثُر الحديث عنه في مطلع عام 2004، لكنه جوبه حينها بمعارضة شعبية واسعة، استندت إلى تخوفّات من ان تكون هذه الأقاليم بمثابة الخطوة التمهيدية لتآلف مع أقاليم أخرى ستُلحق بالدولة الأردنية، تشمل مناطق من الضفة الغربية وغرب العراق.

تم تراجَع عن مشروع الأقاليم للتوجه إلى اللامركزية، وكانت الفكرة طموحة في البداية، لكنها مُسخت بعد أن مرّت من خلال الانبوب البيروقراطي الطويل، حتى صارت عبارة عن مجالس ودواوين تتبع للحكّام الإداريين، وليس لها مخصّصات أو حصص مالية من موازنة الدولة تؤهلها لبناء تنمية حقيقية، وقُيدت بالتعيين حيث أن المجلس يتقاسم الصلاحية في اتخاذ القرارات مع مجلس تنفيذي مكوّن من الحاكم الاداري والمدراء التنفيذيين في كلّ تقسيم إداري، ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ، بل سيتمّ تعيين 15% من أعضاء المجلس، ما يعني وجود أكثر من نصف الأعضاء معينين من قبل السلطات التنفيذية، لضمان تعطيل القرارات غير المتماشية مع قرارات المركز.

فأين اللامركزية؟ أين المشاركة في صنع القرار؟ أين المخصّصات المالية لكلّ محافظة التي تُعبّر عن الاستقلال المالي؟

الحقيقة أنه، ومهما بلغ بنا التفاؤل، فإن هذا المشروع سيظلّ في حدود تخفيف المركزية، ولن يصل إلى أي درجة من درجات مشاركة الأطراف الفعلية للمركز في اتخاذ القرارات ورسم السياسات، إضافة إلى عجز هذه العملية عن إحداث أي اختراق في موضوع إعادة توزيع الثروة، لعدم وجود الإمكانات أولاً، وثانياً لعدم جاهزية الذهنية الإدارية لفكرة التشارك مع أعضاء مُنتخبين في رسم السياسات، وثالثاً، العامل الاجتماعي، الرافض لفكرة تصعيد الكفاءات، حيث سيتمّ انتخاب أشخاص لوزنهم الجهوي وليس لخبراتهم وكفاءاتهم.

ليس الخوف الآن أننا سنشهد فقط، في المرحلة المقبلة، فتح ميدان جديد لإجراء مناورة بالذخيرة الحيّة لتسابق الهويات الفرعية، بل إن الخوف الأكبر يكمن في احتمال استغلال اللامركزية من قبل المركز كمهرب من التزاماته تجاه الأطراف، فبعد أن بدّد وهدر النظام المركزي الكثير من الثروات والمقدّرات، وبعد إغراقه للبلاد بالديْن، ربما هو الآن بحاجة إلى شركاء غير مُكلِفين وظيفتهم مساعدته في تحمّل المسؤوليات، وربما وراء الأكمة أكثر من ذلك بكثير.

محمد قبيلات: كاتب وصحافي أردني.

أضف تعليقك