الكتابة ضرورة، ضرورة الكتابة (*)

الكتابة ضرورة، ضرورة الكتابة (*)

 

 

الثامنة وأربع دقائق صباحاً

الجمعة 30/8/2013

مؤنس العزيز،

أعترفُ بأني كلّما فرغتُ من كتابة "رسالة" لكَ، ردّاً على واحدة منك، بعد كل هذه السنوات الفاصلة بين ذاك الزمان الماثل في أوراقك، وهذا الوقت الذي أعيشه وتنبض فيه ذاكرتي، فإنَّ سؤالاً لا يبرح يقلقني، رغم أني اجترحتُ له أكثر من جواب: ما هذا الذي أنا بصدده، ولماذا، وإلى أين سأصل؟ أقول؛ رغم توفري على تلك الإجابات، إلّا أني لستُ على قَناعةٍ أكيدة وراسخة من أيٍّ منها. أبداً. لستُ واثقاً من "السبب الأوّل"؛ إذ ما يزال غاطساً في نصف عتمته، وبالتالي فإنَّ اطمئناني لطبيعة ما أكتب يظلُّ اطمئناناً ناقصاً ومتأرجحاً، ما يعني خلوه من ركيزةٍ بَرَّانيَّة تضعه في سياق متعارف عليه. غير أني أواصلُ، مع ذلك، دون أن أتوقف. لا؛ لقد توقفتُ أكثر من مرَّة. أحياناً كان توقفي طويلاً وممتداً على مدى شهر ويزيد. أحياناً أقلّ. لكنَّ اللافت أني أدركتُ، على نحوٍ ربما تكون اللغة قاصرة عن الإمساك به، أني بصدد كتابةٍ تتذرّعُ برسائلكَ مبتدأً وأرضاً لها، لا لتشكِّلً "ردوداً" مباشرة عليها بمدلولها التقليدي، بقدر ما يمكن أن تكون حاضنةً ومجالاً حيوياً لذاكرةٍ تتوقُ الاعتراف بمكنوناتها - مُضافٌ إليها إدلاءات، علّها شهادات، تنتسب للّحظة الراهنة. ومع ذلك، ولأنَّ إدلاءات اللحظة لن تكون ملتزمة تماماً بحدود ما يجري في وقت اللحظة ومكانها الخارجي المحصور والتقيُّد به، بسببٍ من إقحامات الذاكرة المزاجيّة المازجة والعاجنة لصاحبها، الذي هو أنا هنا؛ فإنَّ ثبيتَ تسميةٍ محددة لِمْـا كُتب وما سيُكتَب سيوَسمُ، حتماً، بمجافاة المألوف التجنيسي الجاري، والتجرؤ على أعراف كتابات البوح السائدة!

 

إذَن: فلأترك للإسمِ أن يتشكّل من تلقائه عبر الكتابة. ولأدَعْ نفسي تواكِبُ نبضَ ذاكرتها، سالكةً سُبُلَ الكتابة المتعددة، ومنعرجات كاتبها الظليلة.

 

على هذا النحو، تراني ألتقطُ من رسالتكَ مبرراً أتحته أنتَ لي، حينما كتبتَ في خاتمتها: "فالكتابة إليك بالنسبة لي ليست واجباً، بل ولا حتى متعة، بقدر ما هي ضرورة."

 

يا لِجَمالكَ الإنساني يا الحبيب عندما خصصتني في إفادتكَ هذه! ويا لإدراكك المُبكِّر والدقيق لِماهيَّة الكتابة، كفعلٍ فَرْديّ لا يوجبه الواجب (مع إقرارنا بحدوث ذلك كثيراً، بدوافع شتّى من بينها: التنوير، والتثوير، والتحريض، والتوصيل، والتواصل، والتفهيم، إلخ)، ولا تمليه المتعة (رغم توفيره لنا غالباً، دون إحساسٍ بأننا نقترفُ شأناً مُعيباً تستدرجنا إليه إبتزازاتُ رافعي الشعارات الناريّة)، وإنما تستدعيه الضرورة (وهذا لأمرٌ لا يفهمه ويعيه سوى القِلَّة!) – والضرورة هنا، بحسبي، داخلية وحميمة وخاصة وخالصة وشخصية لا تبتغي سوى وجهَ صاحبها! وإنّـا، يا الحبيب، من أصحابها.

 

ربما تتكشّف من هنا، والحالة هذه، إحدى زوايا الإجابات التي جَبَهَتْني في سؤالي عن "السبب الأوّل" لهذه "الردود". ويَرِدُني، بالمناسبة، لقاءٌ مع الصديقة سميحة خريس منذ يومين، أعْلَمَتْني فيه، عندما أخبرتها بأني أكتب ما يجوز لي تسميتها بـ"مراجعات" لرسائلك لي كُتبت قبل أزيد من ثلاثين سنة، بأنّ أخاك عُمر عثر على مخطوط كنتَ تركته، لا أحد يعرف بأمره، أسميته "مذكرات روائي"! وأنكَ، بحسب قراءتها للنصّ الذي حصَلت عليه ووَعَدَتْني بإيصاله لي، قد جئتَ على ذِكْري مراراً، وخاصةً في ما يتصل بحياتنا في بيروت.

 

وإني، لدى تأملي بخبر العثور على هذا المخطوط، كان أن خرجتُ بأنَّه يشكّل واحدةً من شهادات الكتابة عن الكتابة المتأتية عبر آلياتها الخاصّة. كما أنها دلالة من دلالات الضرورة الكامنة فيها، وفي مغزاها العميق الغائر داخل "شخصية الكاتب" بوصفه منتجاً لـ"أشياء" ليست موجهة لأحد سواه. ليست مَعنيّة بغيره. لا يهمّ، في لحظة الكتابة وتوهج نيرانها في القلب، أن تتقصدَ جمهوراً قارئاً راهناً هو بحكم المُفْتَرَض. أو قارئاً مخصوصاً ماثلاً وحاضراً في ذهنه. إنما هي الضرورة الدافعة للكتابة أن تكون! للكتابة أن تُكتب! ثم، وبعد حينٍ يقصر أو يطول.. أو لا يجيء أبداً، ربما تُقرأ!

 

*   *   *

 

أراكَ يا العزيز (آخذاً بالاعتبار عدم اطلاعي على المخطوط إيّاه بعد)، وكأنكَ كنتَ تركض، وطوال وقت عمركَ القصير، بلا نِيَّة التمهُّل، على دربين متوازيين: درب القراءة الغارفة، الغارقة، العَطْشى، غير المرتوية أبداً. ودرب الكتابة الممتدة، الحافرة، الضاربة هنا وهناك، غير المستقرّة على خاتمة. فعند مراجعتي لرسالتك هذه، وسواها قبلها، أجدكَ وقد أوكَلْتَ لنفسكَ مَهمتين. الأولى، تقصّي المعرفة والسعي لالتقاطها على نحوٍ تخاطفيّ ناهب جائع. والثانية، كتابة عُصارتكَ لتلك المعرفة كيفما كانت بوصلتها، إلى أن تستقرّ– أنتَ والكتابة - على حال. ولِعَمْري؛ فإنَّ ما جاء في رسالتك هذه توصيفاً لواقع المكتبات في الأردن حينذاك، وبأنه "كئيب لا يدري الواحد منا أيضحك منه أم يبكي عليه..."، إنما يَصِحُّ على كثيرٍ كثير مما يُكتب هذه الأيام! فالمسألة، في بداية أمر الثقافة ونهايتها – لا بل في جوهرها، كما تعرف -، ليست فقر المكتبات من الكتب "المهمة"، بقدر ما هي هشاشة القراءات لتلك الكتب المتوفرة، مهما صغر شأن مضامينها. فبالنسبة لي، يشكِّلُ الجواب عن سؤال "ماذا تقرأ؟" مَسْحاً لا يخيب في التكهُّن بالماهيّة الفكريّة/ المعرفيّة الناتجة عن تلك القراءات وقد تجَلَّت في سطور ذاك "القارئ" الذي باتَ "كاتباً". غير أنّ الجانب الآخر، المستكمل لوجاهة المسألة والأشدّ دِقَّةً، إنما يتمثّل في سؤال "كيف تقرأ؟" - فأن نقرأ كثيراً من الكتب ولساعات طويلة، فهذا أمرٌ حَسَن. وأن نقرأ كتباً "مهمة"، فأمرٌ لافت وأساسيّ بالطبع. غير أنّ "الكيفيّة" التي نقرأ من خلالها تلك الكتب، بصرف النظر عن أهميتها ومداها، فتلك هي الإشارة الأدقّ التي تتجلّى في المكتوب، بناءً، ولغةً، ورؤيةً، وقدرةً على الإقناع بضرورة هذا المكتوب.. ولو على نحوٍ نسبيّ. وما أعنيه بالكيفيّة هنا إحدى طريقتين: نقرأ سطوحاً عريضةً ممتدة على عشرة كتب وأكثر، أم نقرأ أعماقاً تنتظر سبرنا لها في كتابٍ واحد أو اثنين!

 

وها نحن نعود لمسألة الضرورة، فنعاينها في وجهٍ آخر يستكملُ ذاك الوجه الذي أشرتَ إليه في رسالتك، ووافقتكَ عليه. الوجه الذي ربما لم يخطر على بال حشود من كاتبي الكتب: هل ثمّة ضرورة داخلية حقاً تدفعنا لهذا الفعل، أم أنّ الأمر لا يتعدّى تكريس الإسم بمراكمة كُدْس الأوراق المطبوعة؟ وأراني، بخصوص سؤالٍ صعب كهذا، أميلُ لاعتقادٍ محسوم، إلى أنّ القارئ الذي يعرف كيف يقرأ هو المؤهَل للإجابة. ولن تكون إجابته سوى إمساكه بحقيقة أنّ قراءته لتلك الأكداس كانت ضرورية، أم مجرد إضاعة لوقته!

 

سأدَعُ للخاطرةِ أن تستطردَ قَولَها لتُفيد: إنّ غِنى النصوص متأتٍ عن غِنى كاتبها. وإنّ غِنى كاتبها ناتجٌ عن غِنى ثقافته. وإنّ غِنى ثقافته تحصيلٌ لغِنى قراءاته – تلك القراءات المجبولة بطحن العيش اليومي وطَحينه،

والمخبوزة في دورة فرن نارٍ كلّما خَمَدَت عادت لِتَسْتَعِر من جديد.

 

هل بلغتُ معنىً، أم تراني أرواحُ، مدفوعاً بحيوية كتابة الضرورة/ ضرورة الكتابة؟

لن أُجيب عن سؤالي. لن أُجيب لا لأنني لا أملك يقينَ الإجابة وحسب؛ بل بسبب تخميني بأنّ حالة التواصل الماتزال تنبض فيَّ تُملي عليَّ فعلَ الكتابة المتجهة إليك. ومثلما كنتُ أضْحَتُكَ لمّـا قلتُ لكَ في رسالتي أنني أخاطبكَ كما لو أني أخاطب حبيبتي! فها أراني أوافقك على كل حرف تكوّنت منه جملتكَ الواردة في رسالتك: "..والذي أضحكني فعلاً هو أنّ صداقتنا الروحيّة وتواصلنا المباشر، مهما كانتتترامى بيننا المسافات وتمتد، قد جاوز حدود العاديّة ضمن مقياس عالمنا الجاف اليبوس."

 

أنتَ قُلتها يا العزيز:

الصداقة الروحيّة، والتواصل المباشر رغم المسافات بمقياس عالمنا الجاف اليبوس.

واسمحْ لي، ما دمنا وصلنا هذه النقطة، أن أضيف بُعداً آخر لمفهوم "المسافات"، مشيراً إلى أنه يجاوزُ كُلاً من المكان والزمان؛ إذ ينطبق على غياب الجسد أيضاً. جسدكَ غابَ في مسافته المتنائية، غير أنّ تواصلنا حاضرٌ، ولو بالكتابة.. أو بالأحرى: بالكتابة العابرة لجميع الغيابات!

ليلة السبت، 31/8/2013

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) فصل من كتاب قيد الطباعة بعنوان: "رسائلنا ليست مكاتيب"، يتضمن مجموعة رسائل مؤنس الرزّاز كان بعث بها من بغداد، وبيرمنغهام، وواشنطن، وبيروت، لصديقه إلياس فركوح، في سبعينيات القرن الماضي. فُقدت رسائل إلياس لدى مؤنس، فولد هذا "الكتاب" ليحمل رسائل جديدة، تعويضية، تتفاعل مع تلك الرسائل، إنما بوحي من شروط اللحظة الراهنة (2013-2015) والوعي عليها.

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك