القمح يعيد إحياء خلل سياسات الأمن الغذائي الأردني
لقد أعادت أزمة تصدير القمح الروسي للواجهة ملفات خبت وسرعان ما عادت لتظهر للواجهة بعد نحو عامين من تفشي أزمة الغذاء العالمية، لتفتش مجدداً عن مكامن الخلل في السياسة الزراعية الأردنية التي لا تنفك تلتصق بخلل أكبر يتجسد بسياسات اقتصادية كانت نتاج توجيهات صندوق نقد لا يربأ كثيرا عن سياسات المدينة التي يتخذ منها مقراً وشاءت الأقدار أن تكون أيضاً عاصمة الدولة المتحكمة بسوق القمح و البذار العالمي.
كما كشفت تلك الأزمة الروسية - وما رافقها من ارتفاع كبير لأسعار القمح- النقاب عن تداعي السياسة الزراعية الوطنية التي لا يبدو حيازتها لتصورات واضحة تُترجم لسياسات وبرامج من شأنها توفير الغذاء اللازم والكافي لجيل مقبل قد يلعن سلف تخلى عن مسؤوليته تجاه خلفه، كما يظهر جلياً عدم إدراك تلك السياسات –إن وجدت- للمخاطر التي ترافق تنامي الاستهلاك العالمي لتلك المادة الإستراتيجية مع عودة الصين والهند لجادة نمو اقتصادي يوازي ما حققته بكين ودلهي قبيل ظهور أزمة اقتصادية عالمية بدأت تحط رحالها.
ما هو الفرق بين شخوص حكومات تعاقبت لم تثمر شيئاً وبين فقيدنا الشهيد وصفي التل الذي كان يستشعر ما ستوؤل إليه الأحوال الاقتصادية والزراعية الجسام لدولة كانت تنتج من القمح عدة أضعاف مستوياته الحالية، سوى مراهنته وفريقه على أسس مستمدة من واقع حال البلاد وظروفها وهيكلية سكانها المنتجين، كان فريقاً وطنياً بامتياز لم يلق بالاً لمكتسبات وظيفته، فانياً حياته في إيجاد ملاذات و سبل تفضي لرفع سوية القطاعات والقدرات الإنتاجية.
لم تكن لسياسات التل وفريقه أن تجرنا لطريق صندوق النقد الدولي الذي فرض علينا أجندة كان من بين أبرز ملامحها استيراد القمح الأميركي الأرخص ثمناً من نظيره المحلي كعلاج لهدر "الموارد الوطنية" كطرف معادلة تقف أمام تزايد التزامات المملكة المحلية الخارجية، وهي التزامات لم تتراجع إطلاقاً رغم "تفريطنا" بمؤسسات كانت بمثابة رموز راسخة بيعت بثمن بخس نظير لا شيء، سوى محاولة تصديق كذبة نسجناها من وحي خيالنا تقول إننا مندمجون في منظومة اقتصاد "معولم" يتطلب الانفتاح وتحرير المؤسسات الاقتصادية الحكومية بغية رفع "الإنتاجية"؟
تفيد البيانات الإحصائية المتوافرة بين أيدينا أن المساحات المخصصة لزراعة القمح بلغت زهاء 2.5 مليون دونماً عام 1939 مقابل نحو 86 ألف دونما في الوقت الراهن، وهو ما يفزعنا ولا يدفعنا للتفاؤل حيال قدرة السياسات الاقتصادية على إحداث تحول مرتقب لهذه الأرقام، بعدما جاءت المشاريع الإسكانية والفلل والقصور على تلك المساحات الزراعية الصالحة لزراعة القمح، وهي ذات الأراضي التي رفض التل استخدامها للبناء، حتى تحولت عمّان لكتلة صخرية صماء غير منتجة.
لعل ضيق الأراضي ومن قبلها فسحة الأمل بغد مشرق، يعيدنا لنقطة فرص الاستثمار بالسودان والتي سبق أن تناولها كثير غيري تحليلا وتمحيصاً، إذ يبدو أنها بقيت النافذة الوحيدة للهروب من مأزقنا الغذائي الذي تستحكم به مخاوفنا من ضعف المصادر المائية ما لميتم الاستفادة من مشروع مياه الديسة.
وفي هذا الصدد فإن على وزيري الزراعة والمالية إيجاد إجابات على سلسلة أسئلة تدور في ذهن كثيرين ومن بينهم أنا شخصياً، أولها من المتسبب في تعطيل المشروع الوطني للزراعة في السودان؟ وثانيهما ما يبرر نجاح دول عربية تبعتنا في الذهاب للخرطوم وحققت نجاحات متوالية في ظرف قصير؟ وثالثهما سؤآل يحيرني ويتمحور حول المانع من تأسيس شركة يتناصف رأسمالها القطاعين وترمي للاستثمار الزراعي في السودان؟ وأخيراً، هل تستطيع السياسة المالية التصدي لمزيد من التكاليف المترتبة على دعمها لمستوردات القمح؟
تراودني بعض الإجابات على تلك الأسئلة وإن كانت خبرتني ومعرفتي لا تسعفني في فك عقدة جميع تلك الشؤون، فلربما التقصير في المشروع السوداني ناتج عن تثاقل القطاع الخاص وغياب محفزات نظيره العام الذي يتوجب عليه ربط محفزاته بتطلعاته إزاء مستقبل الأمن الغذائي، وهو الهم الذي ينبغي أن يظل طاغيا بصرف النظر عما يحمله الاقتصاد العالمي من تحولات مختلفة، إذ أن ركود المؤشرات العالمية أو انتعاشها سيحمل في ثناياه تحديات واحدة متشابهة حين الحديث عن الأمن الغذائي، ولنا في العامين الأخيرين ما يكفي من الدروس.
لا نزال نعلق آمالا عريضة على وزير الزراعة الجديد، فهو مزارع بطبيعته وموظف رسمي تدّرج بشكل متميز مكنه من هضم الاحتياجات الزراعية وتطوراتها المستقبلية، كما يعلم يقينا كيف تحولت الآف الدونمات في سهول حوران لأراض جدباء أو تعاني من تشابه المنتج ذاته نتيجة اضطراب قرار المسئولين وتقلب سياساتهم.
كما يعلم الوزير المعني أن نجاح دول خليجية ذهبت للسودان -بعد مبادرات القطاع الخاص الأردني بسنوات عديدة- قد حققت نتائج طيبة مستندة لعظم قدراتها المالية، لكن ذلك قد يصطدم بغياب خبراتها الكفيلة بإدامة ذلك النجاح وهو ما قد يتوفر لدينا ويعاب عليهم.
نرجو من الوزير ونظيره راسم السياسة المالية دراسة الآتي، فما الضير من تأسيس شركة لا يتجاوز رأسمالها 100 مليون دولار تعمل في السودان على أسس تأمين الحاجات الغذائية للمملكة على خطى شركة "حصاد " التي استحدثتها الحكومة القطرية، وما العيب في تحفيز البنوك المحلية على تحرير تلك الودائع المتراكمة التي تتخم صناديقها عبر توجيه جزء منها نحو تلك الاستثمارات، على أن تظل ضمن إطار إشراف الحكومة القادرة على إدارة سياسة تلك الشركة وعلاقاتها الرسمية بالخرطوم.
ويقودني ذلك الاقتراح لآخر موجه لوزير المالية المعني بدعم الفروقات الناتجة عن تكاليف القمح المستورد ومستويات تزويده للسوق المحلية، فهل ستظل الحكومة قادرة على زيادة ذلك الدعم بحلول العام المالي المقبل، بعد أن تكبدت خلال سابقه دعم يصل إلى 90 مليون دينار، فيما تشير بوصلة التوقعات إلى أن روسيا المزود المهم للحبوب أضحت مستورد لها ، ما لا يبشر بخير إزاء توقعات أسعار القمح والشعير خلال سنوات مقبلة.
لماذا لا يعاد رسم تلك الخريطة المتشابكة عبر تخصيص وزارة المالية لمبالغ لتلك الشركة المحتملة نظير مساهمة في مشروع الاستثمار السوداني التي ستكون معنية بإنتاج القمح للمملكة، وبالتالي تخفف عبء تراكم الدعم للسنوات المقبلة والتي يلوح في أفقها تحديات جسيمة قد تزيد من وهن إدارة السياسة المالية وعجزها عن تلبية الاحتياجات الوطنية.
* أردني مقيم في دولة قطر