القتل المُقَدَّس
"هناك الكثير الذي يستحق أن نعيش من أجله، بينما هناك الأقل الذي يستحق أن نموت من أجله، لكن ليس هناك ما يستحق أن نقتل من أجله"، إنّها كلمات الأديب الأمريكي توم روبينز التي تعكس القيَم والفلسفة المتجذّرة لدى السواد الأعظم من شعوب الأرض على اختلاف دياناتها ومعتقدها، إذ يستوي في ذلك المسيحيون والبوذيون والزرادشتيون والهندوس والأزيديون والصابئة بل حتى اللا دينيّون واللا أَدرِيون والربوبيون وغيرهم، حيث لا يكاد يختلف اثنان من أتباع هذه المذاهب العقائدية والفكرية على قدسية الحياة وعلوّها وسمو قيمتها على كل قيمة أخرى.
هذه القيمة الفطرية الطبيعية للحياة، هي التي كرّست إحدى أعتى قواعد القانون الجنائي، في جرائم القتل تحديداً، والتي تقضي بأنه: "لا عبرة بالدافع الباعث على ارتكاب جريمة القتل متى توافرت سائر عناصرها"، بعبارة أخرى، من قتل بدافع السرقة كمن قتل بدافع الانتقام، كالذي قتل بدافع الغيرة مثل الذي قتل دون أي دافع، فطالما أُزهِقَت روحٌ عمداً وبفعل متصل بفاعله بعلاقة سببية؛ فلا وزن للباعث الدافع على ارتكاب أبشع جريمة عرفتها البشرية.
القيمة المتأصّلة للحياة هي التي جعلت شعوباً تتقدّم قروناً على شعوبٍ وُلِدَت لتموت وتُميت معها كلَّ شيءٍ حيّ. فأنّى لأمّةٍ بَرَعَ شعراؤها في هجاء الحياة واستدعاء الموت والتخويف مما بعده؛ أن ترى أنّ هناك ما يستحق أن يعيش المرء من أجله كما قال روبينز؟
وللإنصاف والحياد، فإنّه يجب عدم نسيان أنّه وإن كان عند القوم "روبِينزَهُم" وغيره من دُعاةُ الحياة والتفاؤل –والعياذُ بالله- والتشبّث بتلابيب الدنيا -الفانية- التي ما وُجِدَت إلا لتتزاوج مع موجوداتها وعلى رأسها سيّدُ تلك الموجودات؛ الإنسان، فإنّ عندنا ما ليس عندهم -اللهمّ إلا في عيادات ومراكز الصحة النفسية- من عباقرة النكد والبؤس والاشتياق إلى الحتف وانتظار انقضاء الأجل والتغنّي والتفَنُّن في وصف سكرات الموت وزفراته.
فَهَا هو ذا أبو العتاهية زير النساء سابقاً ومَلِكُ الزُهدِ لاحقاً، يقول: "من لم يُصبِّحْهُ وَجْهُ الموتِ مَسَّاهُ، وخيرُ زاد الفتى للموت تقواهُ، وما أمَرَّ جنى الدنيا وأحلاهُ، هِ الناسَ ثُم مضى عنهُ وخلاهُ، إذ صار أغمضهُ يوماً وسجاهُ". فأبو العتاهية يُذَكِّرُ القومَ بأن طلوع الصبح عليهم لا يعني نجاتهم إذ قد يدركهم الموت عشاءً يتسامرون أو عصراً يتجالسون أو ليلاً نائمون... غاية الأمر أنه –وفقاً لمراد أبو العتاهية- الحَذَرَ الحَذَرَ أيُّها الإنسان أن تنخرط في الدنيا "ومتاعها" وتعمل لها كأنك خالدٌ فيها، إذ ما هي إلا جسرٌ تعبُرُهُ، فإما أن يكون طريقك إلى الجنّة أو "جرفٌ هارٍ" إلى جَهَنَّم.
لا يتوقف الأمر عند كون الدنيا في مفهومنا محطةُ انتظار، مما يجعلنا غير عابئين بها ولا مُقيمين لها وزناً بل يتجاوز ذلك إلى حدود لا نهائية من الغموض والارتباك، إذ أننىا نمضي من هذه المحطّة إلى وجهةٍ لسنا متأكدين منها وليس لنا في نهاية المطاف سلطةٌ في تحديدها أو اختيارها، لكن مهلاً! هناك ما يمكن أن يجعل فرصتنا في تحديد وجهتنا النهائية كبيرةً جداً، وهذه الفرصة مصدرها الحياة ذاتها التي هي من وجهة نظرنا "دار الفناء ومتاع الغرور ونار المؤمن وجنّة الكافر"، إذ إنّ الحياة بقيمتها الرخيصة هذه؛ تبدو ثمناً بخساً يمكن بَذلُهُ من أجل ضمان ما بعدها.
ليت الأمر كان متعلقاً بحياة كل شخصٍ بحيث يقتلُ نفسهُ فينجو حسبَ ظنّه، تماماً كما حدثَ مع بني إسرائيل وفقاً للروايات الدينية حينما اقترن قبول توبتهم بشرط أن يقتلوا أنفسهم، إذ يتجاوز الأمر حياتك أنت ليطال حياة غيرك، فقتل نفسك "حرامٌ وكُفرٌ" بينما قتل غيرك "حلالٌ طالما كان درأً لكُفرٍ"”! نعم، هذه هي المعادلة التي إذا ما تم تحليلها بشكلٍ جيدٍ ومتأنٍ تظهر النتيجة وتفسيرها الذي يحار فيه البسطاء من أبناء هذه الأمة الطيّيبين في كل مرةٍ يقوم فيها إرهابيٌ بقتل أبرياء من بني جلدته أو من غيرهم.
القتل عندنا يتجاوز في فلسفته كل خطٍ أحمر وأزرق وأسود، فالقتل هو واجبٌ وكرامة، وإراقة دم الغير بحجة "نشر الدعوة" أو "مجاهدة الكفار" هو النهر الذي نعبر ضفّته على أشلاء ضحايانا الأبرياء إلى وجهةٍ نرومها؛ الدمُ مهرُ نسائها وخمرُ رجالها.
هل إرهابي لندن البائس حينما قام بسحق الأبرياء من بني وطنه الذين آووه وأبوه وبنوه كان يعتقد حقّاً أنّه بجريمته العبثية هذه سوف يُحرِّرُ بلداناً إستُعمِرَت أو تَفَتَّت برعونة أهلها وحماقتهم، أم تراه ظنَّ أنّ قتله لأولئك الأبرياء سوف يخرج الأمريكان والروس وغيرهما من المنطقة العربية؟ بالتأكيد لا شيءَ من هذا كله آمن به سفاح لندن البائس، إنّ كلَّ ما آمن به هو؛ أنّه يريد أن يموت ويُميت، بحيث يذهب هو إلى عِليّين مع أنّه قاتل، بينما يهوي ضحاياه في سافلين مع أنّهم المجني عليهم، لكن لا يهم من القاتل ومن المقتول، فالباعث على القتل هنا هو كلمة السر، إذ أنّ القتل بنية الجهاد وإعلاء الدين وإظهاره... هو لا ريب عملٌ مُقَدَّسٌ مباركٌ ولو أخطأ هدفه! فمن اجتهد فأصاب له أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد.
هذه ليست صورةً بلاغيةً مبالغٌ فيها، هذه أدبيات ابن تيمية وغيره من مؤسسي حرفة القتل المأجور والقتل بأجر والقتل بأجر آجل والقتل بأجر عاجل... وسائر أنواع القتل التجاري، فالدنيا عند أصحابنا هؤلاء؛ تجارةٌ وثمنٌ بخسٌ عاجل لبضاعةٍ آجلةٍ لا تبور.
عودٌ على بدء، فإنّ توم روبينز بمقالته العظيمة التي إستُهِلَّ بها هذا المقال، يضاهيه قول وفعل سطّره وخَلّدَهُ فقهاء الدماء من أبناء أمّتنا الحكماء، إذ يقولون لا فُضّ فوهم: "هناك الكثير الذي يستحق أن تقتل من أجله، بينما هناك القليل الذي يستحق أن تترك الآخر يعيش من أجله، لكن ليس هناك ما يستحق أن تحيا أنت وغيرك من أجله".
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.