القانون بالتجزئة
أثار نشر مجلس الشيوخ الأمريكي تقريره حول ممارسات التعذيب اللإنساني، الذي انتهجته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في التحقيق مع المشتبه بهم في جرائم الإرهاب، موجةً من الغضب والاستنكار في الولايات المتحدة وفي العالم كله. وتضمنت هذه الممارسات انتهاكات مثل: الإطعام من خلال فتحة الشرج، والحرمان من النوم، والتهديد بالاعتداءات الجنسية على أطفال أو أقارب السجين.
لفت انتباهي حين قرأتُ حول هذا التقرير أن بعض تعليقات مواطنين أمريكيين جاءت تدافع عن هذه الممارسات، وتعتبرها حقاً للحكومة الأمريكية حماية لمجتمعها من الإرهاب، وأنها أنقذت حياة آلاف البشر.
ولم تثن مثل هذه التبريرات تأكيد التقرير بكل وضوح أن "تقنيات الاستجواب المستخدمة لم تسفر عن الحصول على معلومات مؤكدة بوجود تهديدات إرهابية".
لابدّ من الاعتراف أن شعور الغضب الذي أثاره التقرير لدّي بهَتَ أمام شعور الصدمة والغثيان، الذي تثيره تعليقات أعادت إلى ذاكرتي مواقفاً منتشرة وآخذة بالتصاعد ما بين أبناء وطني، تبرر الانتهاكات والتصرفات اللإنسانية في مجتمعاتنا بغض النظر إن ارتكبتها السلطة أو أبناء الشعب نفسه.
هذه الاتجاهات تنبع عن خوف على الجماعة غالباً، لكنها تتبنى موقفاً يقبل الإساءة، حيث يُفصل ما بين المعايير الأخلاقية المعلنة والممارسة الفعلية بحسب الموقف والحالة.
ولعل اللافت أن الأفراد أنفسهم الذين يقبلون مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" عند الحديث عن انتهاكات الدولة تجدهم الأكثر قسوة في الحكم على الانتهاكات الاجتماعية، التي يقع بها الأفراد ومن وجهة نظرهم فإنها تشكل تهديداً أمنياً أو أخلاقياً.
هذه النظرة المتساهلة تجاه التعذيب تنعكس في القانون الأردني، الذي يعتبر التعذيب جنحةً ويعاقب عليه بعقوبة تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات ما لم يؤد إلى موت أو عاهة مستدامة، مخالفاً بذلك متطلبات اتفاقية مناهضة التعذيب التي تنص على ضرورة أن تتناسب العقوبة المفروضة مع خطورة الجريمة.
وتتجلى أكثر الأسباب التي قد ترد لتبرير هذه الانتهاكات هي الحفاظ على الأمن وتغليب مصلحة الجماعة والمجتمع على مصلحة الفرد، وأسوأ ما يفعله هذا الطرح هو أنه يكسب شرعية لممارسات لا إنسانية وجرائم معاقب عليها قانوناً، كما أنه يزلزل نظام العدالة خلافاً لما قد يعتقد البعض بأنه يحقق الردع العام؛ إذ يعطي قيمةً أخلاقيةً مضافةً للإرهابيين أو المجرمين لكونهم يصبحون ضحايا للاضطهاد بدلاً من أشخاص ارتكبوا جرائم ويحاكمون على أفعالهم، كما أن التعذيب يشوّه نظرة المجتمع لنظام العدالة بوصفه نظامٍ محايدٍ ويضعف من الإدانة العامة للإجرام والمجرمين، فكل شخص مدانٍ سيبقى الشك حائماً حول مدى مشروعية إدانته، وسيعطي مصداقية أكثر للادعاءات بأن المجرم قد يكون بريئاً رغم إدانته قضائياً. والأهم من هذا أن من يقع عليه جرم التعذيب هو فعلياً شخص بريء بأمر من الدستور الأردني الذي نص على براءته لحين صدور حكم قضائي قاطع يقضي بإدانته.
السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وإن سمحنا لموظف أمن- الأصل به أن يكون مكلفاً بإنفاذ القانون- أن يرتكب جريمةً تُبرر كونها تفيد الصالح العام ومن ثم يفلت من العقاب، فنحن نضعه فوق القانون، وقبل أن نعي سنقوم بهدر كل الضمانات القانونية التي شرعها الدستور، وننسف النصوص القانونية التي تشكل القواعد الحقيقية لحماية الأمن والاستقرار.
الانتهاك لا يحمي الأمن حتى لو جاء بهذه الذريعة، ما يحمي الأمن هو سيادة القانون وقناعة الأفراد أنهم ينتمون إلى وطنٍ يدافعون عنه ويدافع عنهم، فإهدار المعايير الأخلاقية التي تقوم عليها أسس الحضارة في المجتمعات لن يؤدي إلى حمايتها، بل إلى تهالكها.
· هديل عبد العزيز: ناشطة حقوقية. عضو مؤسس والمديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية.