الفناء من أجل البقاء

الفناء من أجل البقاء
الرابط المختصر

 

حينما قام جان بول سارتر وغيره من فلاسفة عصره بتأطير الفلسفة الوجودية استناداً واستنباطاً من سورين كيركغارد الأب الفعلي للفلسفة الوجودية وصاحب الكتاب الأبرز “رهبة واضطراب” والذي سبق تلامذته بحوالي قرن من الزمان، فإنّ ذلك كان نتيجةً طبيعيةً تلقائيةً تفرضها غلبة الحياة على الموت؛ حيث ظهرت المدرسة الوجودية بمعناها المؤطّر على يد سارت” في فترة الحرب العالمية الثانية التي أفرزت موجات متلاطمةً من الموت؛ بحيث غدت الحياة عند الملايين المتأثرين بهذه الحرب ليست ذات قيمة وفاقدةً لمعناها، الأمر الذي ولّد لدى الفلاسفة الوجوديين شعوراً تلقائياً بضرورة إعادة تشكيل المفاهيم والقيم على نحو يعلي من قيمة الوجود بحيث يغدو الأخير هو محور وسبب وغاية حياة الإنسان.

قد لا يتفق الكثيرون مع الفلسفة الوجودية –على فرض أنّهم فهموها- لكونها –كما يراها بعضهم- مفضيةً إلى الإلحاد، وهذا أمرٌ مقبول من باب حق الخلاف والاختلاف؛ على الرغم من أنّ كيركغارد كان من أشدّ ما تأثر به الكتاب المقدّس وعلم اللاهوت وهو بصدد صياغة نظرته ونظريته حول الوجود والحياة.

الفلسفة الوجودية في جوهرها تنبع من ما زرعته قوانين الطبيعة والحياة في النفس البشرية من أنّه ولد ليعيش ويعيش ليختبر كينونته وحياته ومحيطه، في المقابل، فإنّ ثمة أفكار تراكمت في منقولاتنا الدينية والفكرية يمكن تأطيرها في قالب أو نظرية فلسفية تقف على طرف نقيض مع الفلسفة الوجودية بحيث يمكن تسميتها بكل أريحية: “فلسفة الفناء من أجل البقاء”.

الإنسان في معظم أدبياتنا خُلِقَ لغايةٍ واحدةٍ وهي العبادة التي يغلب عليها عند الكثيرين الطابع الطقوسي والشعائري، ومن هنا انطلق الشرّاح والمفسّرون لتأسيس “فلسفة” فنائية فحواها أنّ “الحياة هي عاجل الفناء من أجل آجل البقاء”، حيث خَلَقَ هؤلاء الشرّاح والمفسّرون متلازمةً بين تحقيق علّة الوجود “العبادة” وبين تسفيه كل ما من شأنه أن يؤثر على تحقيق هذه العلّة، ولما كان هؤلاء قد ربطوا “العبادة” بنهائية وكُلّية التوجّه إلى “المعبود” بحيث يغدو الانعزال عن المحيط بما فيه من أسباب طبيعية تجذب موجوداته نحوه ليعيشوها ويختبروها ويطوّرها؛ من  أبجديات تحقق الإخلاص في “العبادة”، وما عدا ذلك من التعلّق بأي مظهر مادي أو وجداني في الحياة؛ قد يُعدُّ شِركَاً ينبغي على الإنسان تحري عدم الوقوع فيه، فإنّ هذا التصوّر الانعزالي اللازم لتحقيق علّة الوجود –كما يفهمها هؤلاء- أدّى إلى التعامل مع الحياة بمختلف مظاهرها على أنّها عدوٌّ يجب ديمومة الحذر منه لأنّه يسعى إلى انتزاع الإنسان من “كُلّيّة توجهه إلى معبوده”، وكأنما الأمر عند القوم بات بمثابة منافسة بين أمرين يأبى فهمهم لعقيدتهم نفسها التنافس بينهما.

هذا التوجّس الوجوبي من الحياة بما فيها من أسباب تدفع موجوداتها إلى التشبّث بها وتجميلها وتطويرها، هو أحد مفاتيح حل لغز سبب تقدّم الآخرين وتوقّف نمونا الحضاري والإنساني عند نقطة البداية التي هي عند الكثيرين أيضاً نقطة النهاية.

حاول الراحل عبد الله القصيمي أن يحَلِّل متلازمة فهم الدين والعقيدة عند جمهور الشرّاح المتقدمين والمتأخرين مع ثبات الأمّة وتخلّفها عن ركبٍ كانت جديرةً بأن تكون في طليعته، فنال الرجل ما ناله من هجوم واتهامات بالعمالة والعمل لصالح “أجندات أجنبية”. ولمن لا يعرف عبد الله القصيمي وقصّته، فإنّه كان من كبار أئمة التيار الوهابي السلفي في الحجاز في فترة نهايات النصف الأول من القرن الماضي وله مؤلّفات في الدفاع عن المذهب الوهّابي والسلفية التقليدية ونقد بل نقض عقائد الصوفية والشيعة وغيرها من المذاهب وذلك في مؤلفاته التي يحتل كتاب "الصراع بين الإسلام والوثنية" قمّة هرمها، إلى حد أنه قيل بأنّ إمام الحرم المكي وقتها؛ قام بسابقةٍ لم تحدث من قبل حينما امتدح القصيمي على المنبر من خلال منظومة شعرية ألّفها لهذه الغاية.

القصيمي لم يبقَ هو الرجل ذاته الذي تبارت أقلام وقوافي رجال الدين فيما بينها لتمتدحه، فسرعان ما بدأ الرجل باتخاذ منحى آخر تولّد لديه بطرح تسؤالات وأسئلة وجودية وتلازمية وتحليل وتأصيل للعلاقة بين الإنسان وموروثه الفكري وأثر ذلك سلباً أو إيجاباً على تطوّره وتقدّمه، إلى أن انتهى الأمر بالرجل إلى إعلان إلحاده ليكون من أوائل عتاة المذهب السلفي الذين ينتقلون من النقيض إلى النقيض.

يمكن للشرّاح التقليديين إنكار كلّ شيء إلا أمراً واحداً يبدو إنكاره بمثابة إنكار لوجودهم نفسه، ألا وهو أنّهم قولاً واحداً يرون الحياة مجرد ثمنٍ بخسٍ وقيمة منحطة ينبغي دفعها من أجل حياة أعلى وأسمى، وليت هذه الأخيرة عندهم مكفولةً ومضمونةً إذا ما فعل مريدوها ذلك، إذ يتوقف الفوز بها بالإضافة إلى مقدار ازدرائك وتحقيرك لحياتك الراهنة؛ على مدى قناعتك الداخلية وإجبار عواطفك ومشاعرك -التي يستحيل التحكم فيها- على الإيمان بأنّ هذا هو عين الصواب وما عداه عين الكفر والانحلال.

لا يكفي إذن أن تُطلِقَ لحيتك وتعتزل الفنون وتغضّ بصرك عن كل ما هو جميل وتزدري الآثار التي هي من “الوثنيات” وأن لا تأكل كثيراً وأن تنام قليلاً وأن تبتسم دون أن تقهقه وأن تتجنب المزاح وأن لا تقرأ في كل ما من شأنه أن يناقض ما تعلمته من أفكار وعقائد وأن لا تسأل وإذا سألت أن لا تتحرى الإجابة وإذا تحرّيتَها أن لا تصل إليها وإذا وصلت إليها أن لا تصدّقها وإذا صدّقتَها أن لا تؤمن بها. وحذاري حذاري الحب والعشق والجوى والشعر والشَعَر والاستمتاع والإبداع.. .فكلّها من نواقض فلسفة “الفناء من أجل البقاء”.

 إن لم يكن الآن هو أوان تصحيح المسار وتجنيب الصغار ما وقع فيه الكبار من فهم مغلوط لفلسفة الحياة وقيمة الوجود، فمتى يكون ذلك، وأنّى لنا أن ننتظر جيلاً يعشق البناء والبقاء ويستعدي الإرهاب والهدم والإفناء؟

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك