الفرصة الاردنية في النموذج الكوري

الفرصة الاردنية في النموذج الكوري

ما زال جيلي يذكر جيدا العمالة الكورية في الاردن حتى بدايات ثمانينيات القرن الماضي  , والمشاريع الضخمة التي نفذتها تلك العمالة وما رافقها من حكايات شعبية عن الكوريين وانظمة طعامهم وسلوكهم , الى ان احتلت العمالة المصرية الوافدة مكان الكوريين , وبعد ثلاثة عقود نكتشف حجم الفجوة بين تجربتنا وتجربتهم وكيف وصلوا الى اعلى المراتب التقنية والصناعية فيما بات يعرف بالمعجزة الكورية , التي قامت على التقشف وشد الحزام والترشيد في الانفاق واستخدام المشي والدراجات لتوفير الطاقة تنجح كل رسائل الحكومات الكورية في الوصول الى مواطنيها , فما عادت هناك عمالة كورية بل خبراء كوريون وبقيت العمالة المصرية على حالها وتراجعنا نحن , فما هو سر المعجزة الاردنية في التراجع ؟

تفشل بالعادة كل دعوات ترشيد الاستهلاك والانفاق في الاردن , بل ويزداد الاقبال الشعبي على السلع المرتفعة الثمن او التي يرتفع ثمنها , ولا يُقفل الاردني قرضا الا ليفتح آخر من اجل استخدامات بالعادة جائرة , مثل تغيير السيارة او تغيير العفش او اقامة وليمة عرس , وكلما ازداد منسوب الشكوى من الحالة الاقتصادية الصعبة ارتفع منسوب الانفاق على الكماليات في الاردن , فلا يوجد مطعم في عمان العاصمة اغلق ابوابه استجابة للعاصفة الاقتصادية بل ترتفع اعداد المطاعم ويزداد عدد المولات والمجمعات التجارية الضخمة في مناطق عمان الشرقية والغربية على حد سواء .

الاستهلاك ثقافة اردنية مستوردة من الجوار الخليجي وجاء مع المغتربين العائدين من دول الخليج للزيارة الصيفية او للاقامة الدائمة , ورعته الحكومات المُتعاقبة بأهداب عينيها وكأنه ثقافة اصيلة , وساهمت في تكريسه وتثقيفه لاسباب متعددة ليس اولها ان المجتمعات الاستهلاكية تُحجم بالعادة عن السياسة ومتاعبها ومطالبها واستحقاقاتها الاصلاحية من قوانين ناظمة للعملية السياسية واخرى ناظمة للشراكة المجتمعية بين الفرد والدولة , فتميل الحكومات بالعادة الى تعظيم ثقافة الاستهلاك كي ينطحن المواطن في دوامة الحياة ومتطلباتها ويصبح راكضا وراء الرغيف الدائري الذي يدحل ويركض خلفه المواطن .

جيرة الاردن الجغرافية لدول النفط ساهمت في تكريس الثقافة الاستهلاكية كما ان ضرورة الاردن السياسية والامنية لدور الجوار النفطي ساعدته لفترات طويلة في الحصول على الدعم والاسعار التفضيلية مما اهله للسير على درب الاستهلاك وتعظيم ادواته من استثمار في الخدمات على حساب الاستثمارات الزراعية والصناعية التي تخلق فرص عمل وترفد الدخل القومي وتقلّص الانفاق على الاستيراد وتوفر عملة صعبة عكس المشاريع الخدمية واستثماراتها التي تحقق ارباحا هائلة بأقل عائد للدخل القومي واقل عمالة ممكنة , وتكفي مراجعة ربحية شركات الاتصالات والبنوك للتحقق من ذلك , فعوائد الدولة من تلك القطاعات قليلة جدا والعائد الكبير هو من الضرائب المفروضة على المواطن في تلك القطاعات وليس من تلك الشركات والبنوك .

الاسباب المنهجية لثقافة الاستهلاك رفدتها الاسباب المسلكية للحكومات المتعاقبة , التي انفقت وسلكت مسلك الدول النفطية في المباني والسيارات والوفود والرواتب والعوائد التقاعدية , فأكدت للمواطن صحة مسلكه الاستهلاكي بوصف الحكومة صاحبة الولاية والقدوة الوطنية , وعمقّت بشكل مباشر انحسار الثقة في الخطاب الرسمي وفي إنجاح الثقافة المضادة للاستهلاك , مما اثمر عن فشل كل رسائل التقشف وشد الحزام وتخفيض الانفاق , فكل مواطن تطالبه بتقليص انفاقه يبادرك بالقول “ ليش انا “ ويسرد لك الاف الشواهد على الانفاق الرسمي , وعلى الاقتراض الدائم من الحكومات وبالتالي هو يقترض مثل حكومته وتعمقت جملة “ ما في مديون انشنق “ .

المقارنة بين التجربة الاردنية والكورية ليست فوضوية ولا مزاجية , فثمة مشترك اردني واسيوي بشكل عام , ابرزه عدم وجود الطاقة وتوفر الكفاءات البشرية والرغبة الجامحة بالتفوق المجتمعي , ولكنهم سبقونا في الارادة السياسية والانموذج الملتزم , وما زالت الفرصة الاردنية قائمة .

الدستور

أضف تعليقك