الحديث عن الظواهر الاجتماعية يأخذ منحى علمياً حين تصبح الظاهرة عامة ومتكررة وليست فردية منعزلة. ونحن اليوم نقف أما حالة صعبة التوصيف ومتشابكة الأسباب، بل متداخلة الاتجاهات، فقد لاحظنا في السنوات الأخيرة انتشار ظاهرة العنف المجتمعي، كما أنها تزداد يوماً بعد يوم، ولم نلمس حلولاً فاعلة في المدى المنظور.
يبدو من المفيد في هذا المضمار الالتفات إلى القيم الإنسانية، التي تختزن في جوهرها إنجازات البشرية على مر العصور، وهي كذلك ثمرات وجهود الإنسان بصراعاته ونجاحاته وتناقضاته ومصالحاته، ويرى العلماء أن العنف هو مؤشر على الانهيار الخطير الذي يشهده الواقع، وهو كذلك تعبير عن خلل في بناء المجتمع، على جميع المستويات؛ النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
أشير هنا إلى الجانب القيمي في تحليل الظاهرة من دون أن أستبعد أهمية جوانب أخرى في التحليل، ذلك أن مفهوم القيم لا يعني السلوك الفردي فقط، والحث على القيم الفضلى للأفراد، بل يعني كافة القيم التي يمارسها المجتمع، بكل مستوياته؛ الشعبية والرسمية، المواطن والحكومة، المؤسسات الحكومية والخاصة، إذ تشكل جميعها منظومة القيم التي تحكم سلوك المجتمع بأفراده ومسؤوليه، فعندما تضطرب القيم لدي أي مجتمع من المجتمعات تصبح الفوضى والعبثية هي السائدة، ويشعر الإنسان بالتهديد في نفسه وعرضه وماله، والأسباب عديدة ومختلفة في مقدمتها انتشار الظلم وغياب العدل وتهميش العقل والمنطق، فضلاً عما يترتب على ذلك من فساد الخلق والضمير.
لقد دخلنا في مراحل متقدمة من بوابات الظلم بكل أنواعه، وفقدنا بذلك توازن القيم المعنوية، التي تسند بناء المجتمع، وتدفعه نحو البناء والتطور، وصار الفرد يشعر بالتهديد الدائم على نفسه وهويته، بل على وجوده وكيانه، وهو ما يجعله غير قادر على معرفة أولوياته، ويفقد مرجعياته، وتتهمش قيمه بكل ما فيها، وبكل أنواعها، وإذا نظرنا إلى حالنا سنجد أن هناك فقداناً للقيم، وإن كانت غير ظاهرة وغير معلنة، إلا أنها تظهر في الحالات غير الطبيعية عندما يتعرض الإنسان لأقل مشكلة، فلا يستطيع ولا يملك القدرة على التفكير الصحيح في اللحظة المناسبة، لأن محركاته الداخلية مشوهة ومضطربة.
إذا أخذنا مثلاً القيم الثقافية وأمعنا النظر فيها سنجد أنها –إن كانت موجودة أصلاً- غير قادرة على بناء التوازن المطلوب للنفس وتربيتها، لأن طبيعة الثقافة في أي مجتمع هي التي تحدد إلى حد بعيد صور العنف، فإذا كانت الثقافة عنيفة يتحول الإنسان إلى أداة للأذى بكل صنوفه وأشكاله، وتتحول اليد إلى أداة لممارسة القتل والتدمير وكل أشكال العنف المادي، أما إذا كانت الثقافة تختزن مفاهيم الرفق والعفو والتسامح والتعايش، فإن ذلك يؤدي إلى تحقيق السلم النفسي والتوازن الاجتماعي، ولو قدر لأحدنا أن يستمع إلى ما يبث في الإذاعات من أغانٍ وفي الصباح الباكر، لهاله ما يسمع، فكلها تدعو إلى الهجوم والكر والفر وقلع العيون وقطع الأيدي والألسن والموت الأحمر ونفي الآخر. أليست تلك ثقافة منتجة للعنف والتدمير؟
أما في المجال الاقتصادي فهناك فقدان القيم على مستويين؛ الأول بتحويل كل موجودات الوطن إلى سلع يمكن الاتجار به، وحساب قيمته بالربح والخسارة، فكل شيء قابل للبيع حتى الممتلكات العامة، وأراضي الدولة والغابات والشطآن والمرافق العامة، لذا يصبح المواطن مسكوناً بالخوف من المستقبل، كما أنه يحاول كسب ما تطاله يده وما تصل إليه حتى لو كانت من الأموال العامة، وتصبح قيم الأمانة والحفاظ على المال العام أثراً بعد عين.
وفي المستوى الآخر فإننا نلاحظ بسهولة ما حدث خلال السنوات الأخيرة من إخفاقات التنمية والتفاوت الكبير في مستويات المعيشة بين الناس، والبطالة وتدني مستويات الحياة، فالتدهور الاقتصادي يقود إلى تصدعات اجتماعية خطيرة، والمجتمعات المهمشة التي تعيش الضنك في كل مراحل حياتها، هي مجتمعات مريضة، لأنها لا تحيا حياة طبيعية، فيضطرب السلوك وتنشأ الأزمات من دون سابق إنذار وعلى أتفه الأسباب، وذلك تعبيراً عن حالة مرفوضة لكن غير مسموح الحديث عنها، فهناك فساد واعتداء على المال العام وسطو على حقوق الناس، وهم غير قادرين على الدفاع عنه، مما يزيد من حالة الاحتقان الذي يظهر على شكل عنف ضد الآخر، وممارسة كل أنواع الظلم الذي يستبطنه الفرد من الظلم الواقع عليه، ويستخدم الظلم وسيلة لتصفية الحسابات الشخصية أو الحصول على المنافع والمكاسب الأنانية عن طريق التزلف لأصحاب السلطة والجاه، الذين بأيديهم العطايا والمكرمات والهبات، فتحولت معيشة الإنسان -التي من المفترض أن تكون حقاً مكتسباً- إلى مكرمات يحددها مقدار رضا المسؤول، كما تحولت المناصب والمواقع الإدارية العليا إلى جوائز يحصل عليها المقربون من غير مراعاةٍ لعنصر الكفاءة والقدرة والتنافس الحر والشريف، وكل ذلك يدفع إلى بروز مظاهر النفاق والكذب وزيف الولاء للحفاظ على المكاسب المربوطة بيد المسؤول.
إننا بحاجة إلى إعادة النظر في الأسباب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تدفع الإنسان إلى تبني خيارات التعصب والهروب للخلف، واستخدام العنف في علاقاته مع الآخرين، من وجهة نظر قيمية، تعاين تغير القيم والسلوك في المجتمع، في ظل غياب متطلبات العدالة في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال بناء حياة سياسية جديدة وديموقراطية، مبنية على قيم سياسية منفتحة ومتسامحة ونزيهة، تسمح لجميع القوى والتيارات بممارسة حقوقها والمشاركة الجادة والنوعية في البناء والتطوير، وإعادة النظر في منتجنا الثقافي وطرق تعليمنا وتربيتنا في مدارسنا وجامعاتنا، لتنطلق كلها من رسالة القيم الإنسانية العليا التي تحفز الفرد وتعظم من مفاهيمه المعنوية تجاه المجتمع والوطن والولاء لمجموع الأمة، والابتعاد عن الزيف في الولاء للأشخاص، ليكون قادراً على تحديد اتجاهاته بحرية واستقامة.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.