العنف في الأردن وغياب المبادرات المجتمعية
محزن حد البكاء المشهد العربي الذي نعيشه ونرى تفاصيله. فالسودان تتهدده سكين التقسيم بعد عقود من فشل السلطة وتهميش وإقصاء للأقليات واستبداد في الموارد، وتونس والجزائر تهتزان تحت وقع خطوات المحتجين الفقراء والعاطلين عن العمل، فليس هناك أكثر ألماً وفاجعة من أن يحرق الإنسان نفسه ليعلي من صوته ويكشف عن حجم الأزمة وراء الجدران وفي الأزقة والأحياء التي لا تلتفت إليها الكاميرات إلا عند الكوارث.
وفي مصر تمتد يد الإرهاب لتضرب في كنيسة القديسين في الاسكندرية، فتعمّق شرخا طائفيا بدأ يهدد النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، ومن غير المعروف ما إذا كانت السلطة السياسية ستستدرك الأزمة وتضع حلولاً في التعامل مع أقباط مصر.
والواقع ليس أفضل حالاً في فلسطين. فالسلطة الفلسطينية وحماس أفلستا سياسياً، والشارع هناك لم يعد يأبه لهما، والجرافات الإسرائيلية تعبث في القدس لتغير التاريخ، وما تعجز عنه ينجزه الرصاص.
المشهد العربي محزن حتى البكاء، ولم يكن الأردن في العام الجديد خارجا عن الاستثناء، ففوضى التناحر العشائري وصلت حداً لا يمكن السكوت عليه، وصارت مثل كرة النار تتدحرج فتنتقل شرارتها إلى مدن جديدة. معان كانت المحطة التي تبعت أحداث الشغب في الجامعة الأردنية، كانت مشاجرة انتهت بملثمين يطلقون الرصاص في الشوارع ويحرقون المباني الحكومية، ومن بينها المحاكم لإتلاف القيود والأدلة الجرمية ضد المطلوبين أمنياً.
كنت أشاهد ما تنشره المواقع الإلكترونية واليوتيوب من أحداث العنف في الجامعات والمدن حين حدثني زميل صحافي وقال لي متهكماً عن الوضع المزري الذي وصلنا له.. لم يبق علينا سوى أن نخطف السياح حتى نصبح مثل اليمن والصومال!
والكارثة أن أحداث عنف اندلعت في الكرك قبل أن تنتهي المشكلة في معان. وحين تدقق في الصورة لا تجد على طاولة الحلول سوى معالجة أمنية تطوق الأزمة وتخمد الحدث. كل المقاربات الأخرى تظل في إطار التنظير السياسي، وكل محاولات الاحتواء تنتهي بالفشل، فالقيادات العشائرية والبرلمانية والسياسية أصبحت عاجزة، وهي بالأساس جزء من الأزمة وتعيش بظلالها.
أكثر ما أفرحني في هذا المشهد المؤلم رد فعل الشارع المصري بعد التفجير الإرهابي في كنيسة الاسكندرية، فالإعلاميون من الحكومة والقطاع الخاص تجمعوا معاً لإطلاق برامج حوارية من أمام الكنيسة تحت اسم "أولاد مصر".
والفنانون تحركوا فوراً للتعبير عن موقفهم بالغناء والكاريكاتير والمسرح، رافضين التقسيم الطائفي لهم، وفي مسرح ساقية الصاوي رفعوا شعاراً ملفتاً ومعبراً "يا نعيش سوا.. يا نموت سوا"، والأهم أن نشطاء المجتمع المدني دعوا المصريين وخاصة المسلمين ليفرضوا طوقاً ودرعاً بشرياً حول الكنائس لحماية المسيحيين خلال احتفالاتهم بعيد الميلاد. الوعي المجتمعي في مصر كان أفضل رداً وأكثر بلاغة من خطابات الحكومة ومن التدابير الأمنية.
رغم كل العنف المجتمعي الذي ينخر مجتمعنا في الأردن، فلا مبادرات مجتمعية تأخذ طريقها، فأين هم الفنانون الأردنيون.. لماذا لم يذهبوا إلى أماكن العنف لتطويق الأزمة والغناء للتسامح وسيادة القانون؟ أين هم الصحافيون، لماذا يعجزون عن إطلاق حملات توعية تجفف منابع الغضب في نفوس الشباب؟ أين هي مؤسسات المجتمع عن إحداث فعل ومبادرات خلاقة تؤكد أنها جزء من المجتمع لا تعيش على هامشه؟ أين المؤسسات الشبابية.. إذا لم تتحرك في هذا الوقت وتنزل للميدان فمتى يحين دورها؟!
كنت مشوش الذهن وأنا أستعرض هذا المشهد المؤلم، وكان الأكثر إيلاماً أن أسمع الأغاني الأردنية التي تعلي من شأن العصبيات والحارات، فتلك للسلط حتى صارت نشيداً وطنياً لهم، وأخرى لعجلون وثالثة للكرك وهكذا، ويبقى الأردن الوطن الذي لا بواكي له!
الغد