العلاج خيرٌ من الوقاية
"ياما صادفت صحاب وما صاحبتهمش، وكاسات خمور وشراب وما شربتهمش، أندم على الفرص اللي أنا سبتهم، وإلا على الفرص اللي ما سبتهمش عجبي!".
هكذا يعبّر الراحل العظيم صلاح جاهين عن الحوار الطبيعي والتلقائي مع النفس التي قلّما تتعايش مع الثوابت وتتوق دائماً إلى التحرّر منها، إذ أن هذا إكسير بقائها وتطورها وتكيّفها مع كل متغيّر من حولها.
مسألة التخيير والتسيير وإعادة التقييم والتفكير، باتت لدى الكثيرين ومن دون وعيٍ منهم بمثابة أساس المشروعية وجلد الذات عن كل "معصية" يرتكبها أو يشرع في ارتكابها شخصٌ ما استجابةً لنداء النفس أو تماهياً مع طبيعة الأمور التي تقتضي أن يخطئ الإنسان ثم يصيب ثم يخطئ ثم يصيب وهكذا حتى يرحل عن هذا العالم وقد تكون لديه مخزون من التجربة الحياتية المكتسبة بالمراس والمباشرة.
على نقيض ما يهرف به الكثيرون من عبارات رنّانة وطنّانة أمام عدسات الكاميرات وخلف ميكروفونات الإذاعة بأنّ: "الأصل هو الصواب والخير... الإنسان مفطور ومجبول على الفضيلة... النفس البشرية تسعى إلى معرفة الحق .."، فإنّ أدبياتنا في جلّها تزخر بكل ما يدحض هذا الادعاء، إذ تحمل الكتب بين صفحاتها الصفراء ترانيم سوداء غايتها أن يكره المرء نفسه ويزدريها ويقيم عليها رقيباً يكبح جماح "انحرافها المتأصل".
يبدو الجنس من أكثر القضايا التي يستند إليها المتربصون بالحياة لإثبات أنّ الأصل في البشر هو الرذيلة والاستثناء هي الفضيلة، وهذه الأخيرة لا تتحقّق إلا بلجم المرء نفسه وحبسها داخل فضاءاتها التوّاقة للتحرّر من كل قيد.
ينتاب المتأمل لجانب لا يستهان به من الأدبيات شعورٌ بأنّ العالم ببشره وشجره وحجره في حالة مستمرة من "الزنى" المستصحب غير المنقطع. كنت أحفظ وأردّد شأني شأن الكثيرين منذ الصغر أنّ العين تزني وزناها النظر”، وظللت أظن أنني في منجى من هذه المعصية لكون النظر من أصله لم يعد موجوداً؛ حتى ركبت في إحدى الأيام المكفهرّة "سرفيس ماركا الشمالية" عائداً من "تزويغة" من المدرسة، فإذا بالسائق يتمتم ويلعق شفتيه “الله الله الله.... فعلاً.... الله يجيرنا..."، وذلك على خلفية صراخ الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله في أحد أشرطة الكاسيت التي كانت منتشرة في عقد الثمانينيات انتشار النار في الهشيم: "اسمع يا مؤمن! العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والأذن تزني وزناها السمع، والقدم تزني وزناها شق الخطى إلى المعصية!".
انتابتني حالة من الذعر وأخذت أتلمس بيدي اليسرى أطراف أنامل يدي اليمنى، متسائلاً إذا ما كانت هذه الأنامل "آثمةً" لأنّها كانت منذ سنوات مضت وفي مرحلة الابتدائية؛ تتحيّن الفرص على الدوام لتلمس شعر إحدى المدرّسات التي لا يزال منظر شعرها الطويل ماثلاً أمامي وهو يشقّ طريقه في مجرى نهره المنساب من بين كتفيها إلى أسفل ظهرها ثم يتفرّع إلى فرعين يميناً ويساراً لتلتقي أطراف خصله المتساوية حول كاحليها مشكّلةً قرصاً نصف دائري يتخلل خيوطه البُنّيّة زرقة بنطالها الجينز الغامق؛ وكأنّه غروب الشمس حيث انسابت خيوطها الذهبية فوق صفحة ماء زرقاء.
انتقلت يدي لتتفحص وجهي "الآثم" الذي اعتقدت وقتها حتماً بأنّه قد "وقع في الخطيئة" هو الآخر، ورُحتُ أستعيذ من الشيطان حينما بدأت أسترجع لحظات الشعور بالدفء والأمان الذي كانت تغمرني به إحدى المشرفات حينما تضمّني إلى صدرها في كل مرة كان لا يتمكن أقاربي من اصطحابي إلى منزلهم في عطلة نهاية الأسبوع لأبيت عندهم في ما يشبه الإفراج المؤقت بعيداً عن وحشة القسم الداخلي في مدرستي التي كانت تحاكي في أجوائها وقسوة ظروفها أقبية بولندا البائسة في الحرب العالمية الثانية.
انتزعني صراخ الشيخ المتصاعد مرةً أخرى إلى الواقع "الموبوء بالخطايا" سارقاً منّي ذكريات كنت أبحث في سراديب ظلمتها عن لحظات الحنو "الآثمة" - كما يراها الشيخ- فإذا به يزيد الطين بِلّةً حيث تابع صائحاً: "من خرجت وريحها تعصف، فهي زانية".
أصابتني هذه الحالة الجمعية "الآثمة" بالذهول، وكأنما في كل مكان وتحت كل حجر خطيئةٌ ترتكب أو يُشرَعُ في ارتكابها. بدأت أحصي جاراتنا وقريباتنا ومعلماتي اللاتي كنت أستمتع بعبق عطرهنّ الذي كنَّ يتركنه خلفهنّ في بيت الدرج و"كوردورات" المدرسة وداخل الصفوف، فإذا بي أخرج بقائمة طويلة من "الآثمات" ناثرات العطور اللاتي فضّلن رائحة الزنبق أو الياسمين أو الليمون الصناعية على رائحة العرق الطبيعية!
هذه الحالة الجمعية من التأثيم الذاتي والغيري المترافقة دائماً مع حالة من الماسوشية (Masochism) ليس لها اليوم أن تنتج جيلاً معتدلاً قويماً يقود الأمة نحو التحضّر والمدنية التي يعيش فيها الناس متجانسين وإن اختلفوا ومتوافقين وإن تخالفوا، حيث أساس عقدهم الاجتماعي هو احترام حريات وحقوق بعضهم البعض وحمايتها من بعضهم البعض، والاعتزاز بالتنوع لأنه مظهر إنسانيتهم ورقي خلقهم ومؤشر تحضرهم.
إذا كانت الوقاية خيرٌ من العلاج في كثير من الأمور، فإنّها ليست كذلك في عملية بلورة وتطوّر منظومة القيم والسلوك الاجتماعي، ذلك أن اعتناق الوقاية مذهباً ومنهجاً يؤسس لمجتمع معصوم لا يخطئ، هو المحال بعينه والعبث بسخريته وهزله، إذ ستغدو المعادلة مقلوبةً ومناقضةً لطبيعة الحياة، فالخطأ الذي عرفه ويعرفه الإنسان بالتجربة والمراس، سيتلقّاه مقولباً ومصنّفاً في حزمٍ ثابتة من "النواهي" مسبقة الإعداد التي لا يجوز تغييرها أو تحويرها أو تكييفها بل لا يجوز تأويلها وتفسير "حكمتها"، الأمر الذي يتعارض وديناميكية الحياة واختلاف المفاهيم من مجتمع إلى آخر بل داخل المجتمع نفسه وفقاً للمكان والزمان والظرف العام السائد المؤثر.
العلاج وليس الوقاية هو الأساس في تصويب الخلل الذي يجعل الأصل في الأشياء الخطأ والخطيئة ويفرض على الإنسان تحري عدم الوقوع فيهما حتى دون أن يعرفهما، والخلل كلّ الخلل أن نربّي في الأجيال نزعةً نازيةً اتجاه ملكاتها وميولها الطبيعية لمعرفة غيرها وتعريفه بهويتها، فنجعل من الحاجة الإنسانية الطبيعية لاكتشاف الذات ومعرفة الآخر من خلال التواصل بالنظر والكلام والملامسة والكتابة والإشارة بل حتى بالأحلام والرؤى... خطيئةً ينبغي تجنبها والتطهر منها.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.