العشيرة والعائلة على حساب الهوية الوطنية الجامعة

هل يختلف لجوء الأفراد والجماعات للعشيرة ورابطة الدم للاحتماء بها بدلا من سلطة القضاء والدولة، عن قيام بعض المسؤولين بتوريث المناصب العليا في السلطة لأبنائهم ومحاسيبهم وأقربائهم، او قيام الطبقة السياسية باحتكار المناصب المرموقة كوظائف السلك الدبلوماسي والقضائي وبعض المناصب الرفيعة ذات الدخل العالي جدا في مؤسسات متخصصة تابعة للسلطة؟ قطعا لا يختلف الأمر، بل هو متشابه في الجوهر، ففي جميع هذه الحالات يتم الارتداد إلى عن المشروع الوطني إلى مجتمع العشيرة والقبيلة، والتشكيلات التي سبقت تبلور الهوية الوطنية سواء جرى ذلك في بلدان نالت استقلالها الرسمي عن الاستعمار، أو في فلسطين حيث يفترض بأن الحركة الوطنية الفلسطينية وإطارها الائتلافي الجامع منظمة التحرير الفلسطينية، تمثل الهوية الوطنية الجامعة بديلا عن الانتماءات العشائرية والقبلية والدينية والطائفية والجهوية.



في معظم البلاد العربية، انتعشت الهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية الجامعة بسبب فشل الدولة الحديثة المستقلة عن الاستعمار، في تحقيق التنمية أو بناء الدولة القائمة على المواطنة بتوفير الحقوق الأساسية للمواطنين والحريات العامة، وبسبب تحول الكيانات القطرية المستقلة عن الاستعمار الذي رسم حدودها بما يتناسب مع مخططاته لمواصلة سيطرته على هذه البلدان، إلى ما يشبه المزارع الخاصة بالحاكم الذي يستفرد بالسلطة والثروة ويحتكر النفوذ، ويهيمن على كل مؤسسات الدولة وينفرد بالتعيينات والتوظيفات فيها بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنية والوزارات والسفارات ووسائل الإعلام وحتى على جزء مهم من مؤسسات القطاع الخاص كالوكالات الحصرية والشركات الطفيلية التي تحقق أعلى معدلات الأرباح مثل شركات الاتصالات والبنوك والمضاربات العقارية، ثم يوزع هذا الحكم بعض الفتات على أعوانه وحاشيته ويترك هامشا – يضيق أو يتسع- لشريحة طبقية تؤازره وتتبنى برنامجه وتدافع عنه، وحولها شرائح أكثر اتساعا وأقل حظوة من المنتفعين والأنصار و"السحيجة".



أدت هذه السياسات والممارسات الفاحشة إلى تجريف المجتمعات وتجويف الدولة ومؤسساتها بتحويلها إلى هياكل عديمة الفائدة لا وظيفة لها في خدمة المجتمع، وتكاد وظيفتها الرئيسية تنحصر في خدمة الحاكم وحاشيته. وحين هبت عواصف الربيع أو الخريف العربي العاتية، سرعان ما تصدّعت هذه البنى والمؤسسات، فانهارت الدولة واجهزتها وانتكس المجتمع ، ودخلت فئاته ومكوّناته في متاهة من الفوضى والعنف القائم على الهويات الجزئية، الطائفية أو القومية كما في العراق وسوريا والطائفية في لبنان، والمذهبية كما في اليمن والقبلية كما في ليبيا، كل ذلك في غياب مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية من نقابات واتحادات شعبية وأحزاب وروابط أهلية، وحتى الآن ظلت تونس – مع الحذر الواجب إبداؤه بسبب التطورات الأخيرة- تمثل استثناء إيجابيا بفضل وجود مؤسسات مجتمع مدني مؤثرة ومتماسكة، وفي بلدان أخرى كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي ساهمت في الحفاظ على تماسك الدولة وبقائها.



يمكن العثور على مظاهر الفشل في جميع مجالات الحياة: العالم كله تجاوز مفهوم الأمية الأبجدية منذ وقت طويل، بل هو يتجاوز الآن الأمية الحضارية حيث يتمكن الأفراد من التعامل مع التكنولوجيا الحديثة واستخدامها في معاملاتهم اليومية المختلفة، بينما العالم العربي ما زال يرزح تحت أعباء التخلف والجهل والأمية الأبجدية في ابشع صورها حيث تصل نسبة من لا يتقنون القراءة والكتابة وخاصة بين النساء إلى ما فوق 40 في المئة، كل مؤشرات التنمية البشرية في الحضيض بما في ذلك معدلات الدخل ومستويات الخدمات الصحية، وانتشار التعليم ونوعية هذا التعليم ومضمونه وعلاقته بحاجات التنمية، إلى جانب الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحريات العامة. حتى الدول ذات معدلات الدخل المرتفع – بسبب اعتمادها على تصدير النفط والغاز غالبا وليس على التنمية الحقيقية- نجد أن مؤشرات التنمية فيها متدنية بسبب غياب الحريات والتوزيع غير العادل للدخل الوطني، بل إن مؤشرات التخلف تصل إلى ميادين الفعاليات الإنسانية كافة كالثقافة والفنون والرياضة والنظافة العامة في المدن والشوارع وأزمات المرور والسكن والخدمات الأساسية.



في الحالة الفلسطينية فشلت الثورة الفلسطينية بفصائلها المختلفة في أن تعزز نضالها السياسي بثورة اجتماعية ومضامين تقدمية وعصرية، وفي اعتماد مبادىء الديمقراطية والحوكمة والنزاهة والمساءلة والشفافية، والتداول السلمي للسلطة والمسؤوليات، واعتماد معايير الكفاءة والجدارة في التوظيف والتعيينات والترقيات، وحلّت قيم الواسطة والمحسوبية ومعايير الولاء والطاعة العمياء ومختلف مظاهر الفساد والإفساد، وكأن الثورة ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية التي انبثقت عنها استعارت أسوا نماذج النظام العربي الفاسد، فأعادت بذلك إنتاج شروط التخلف والتبعية التي كانت السبب الأبرز لهزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية أمام المشروع الصهيوني في عقود العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، كما كانت سببا لهزيمة النظام العربي بأسره في العام 1967 ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن.



ما تشهده بعض المناطق الفلسطينية المحتلة من انتعاش للعصبوية العشائرية، وعجز السلطة وأدواتها عن إنفاذ القانون يشكل امتدادا طبيعيا واستكمالا لمنطق الاستيلاء العائلي والفئوي على السلطة والاستحواذ على مقدراتها، وبالنتيجة فإن هذه المظاهر إذا لم يجر إصلاحها وتداركها في أسرع وقت ممكن، تمثل مؤشرات على خطر انتكاس المشروع الوطني، وهي تشبه إلى حد كبير ما يحصل في الطبيعة من إنذارات وإشارات طبيعية تنبئ عن زلزال قادم فتدركها بعض الكائات الحية.

*الحوار المتمدن

أضف تعليقك