"الضرورة" وقداسات دموية

"الضرورة" وقداسات دموية

 

 

تحولت الحرب المركبة في سوريا، وعليها، وبكافة التفاصيل المتصاعدة التي تراكمت خلال أربع سنوات، إلى "مسألة كُبرى" يمكن للفاحص لها أن يقرأ فيها العالمَ كما هو اليوم. العالم في عُريه الكامل حتى من "ورقة توت" أخلاقية واحدة. العالم الذي فشلَ في إقناع الضحايا، جميع مسميات الضحايا، بصدق تصريحات زعمائه الزاعمة نصرة الإنسان ومحاربة الوحش. العالم الذي يؤكد كلّ يوم أنه تخلّى كلياً عن مبادئ حقوق الإنسان، وصون كرامته، ونشدان السلام؛ إذ بانخراط دول الإقليم والقارات جميعاً في هذه الحرب إنما هي الشهادة الساطعة على أنّ الجميع "شركاء الجريمة الواحدة"، وإنْ بدرجات متفاوتة!

 

لا أحد من هؤلاء، بعد اليوم، يحق له أن يضيف "كلمة شَرَف" دَعَيَّة واحدة، ولا أحد سوف يُنصت منتظراً فَرَجاً وانفراجاً، لأنّ حمولات الكذب أصبحت أثقل من أن يستطيع حملها حتى أصحابها. والمدهش في "المسألة السورية الكبرى" أنها نشرت النسخة الأخيرة، الصادرة حديثاً جداً، من الكتاب القديم القائل: إنّ شركاء الجريمة، باختلاف نزوعاتهم، مجموعة منافقين. وإنّ خريطة توافقات المنافقين المبرمة سرعان ما يتم تمزيقها والتراجع عنها للتملّص منها، حال يقتضي حال الارتباك والفشل ذلك. عندها؛ يتدخل الشريك الأقلّ كلاماً، الأكثر ثباتا في موقفه، ليقلب المعادلة العاجزة على رؤوس الشركاء المهزوزين، ليتحوّل، هو نفسه، إلى ضرورة!

 

يتحوّل إلى ضرورة، كون مراهنات شركاء الفشل أضحت مجموعة خيبات، والفوضى التي تسببت بها حماقاتهم وادّعاءاتهم الزائفة يتداركونها بتصحيح خطأ هنا بخطأ أكبر هناك! فهل هذا الضرورة المحتلة للمشهد اليوم هو حقاً هكذا؟ ولمصلحة مَن يحضر ليضع نهاية لفوضى السنوات الأربع الدامية والمدمرة؟

ليست أسئلة بلا أجابات بالطبع، غير أنّها إجابات مغموسة بمزيد من الدم، ولأنها كذلك فإنها محفوفة بمزيد من التعقيد والتركيب. حتى وإنْ نجحت، ربما، في "حسم" المسألة، لكنه حسمٌ إلى حين!

وإني أشير هنا إلى الشريك الروسي بالتأكيد، المقتحم للمشهد الآخذ بالتأزم كلّما اتسعت الفجوات فيه.

معه، أم ضده؟

 

ليس هذا بسؤالٍ عاقل؛ إذ لست ممن يتراكضون لتسجيل المواقف لصالح شريك الجريمة هذا على حساب آخر لا يعوزه الإجرام أبداً. لست من هؤلاء، لأنّ دم الضحايا الحائر بين الشركاء، المسفوك بحرابهم جميعاً وبسببهم، لا وقت يملكه للتصنيف! فكلّ الوقت للموت!

*   *   *

 

أشرت في بداية المقال إلى تحوّل الحرب في سوريا، وعليها، إلى "مسألة كبرى". وما قصدته هو أنها بمجموع تعقيداتها وحمولاتها المتراكمة أصبحت تمثّل اختزالاً لموضوعات تاريخية ظننا، واهمين، أنها انتهت. لكنها، كما أظهرت سنوات الدم الأربع وما قبلها بدايةً من أفغانستان، عادت لا لتطفح من جديد فقط؛ بل لتحتلّ حيزاً رئيساً من مشهد الشرق الحالي. وإني أقصد هنا تحلي الصراع بالبُعد الديني: ذريعةً، ولغةً، ورايات، وفتاوى تجعل من الاصطفافات المختلفة صفوفَ خنادق مقدّسة.. حتى وإنْ جافى هذا منطق الخروج من "عصر الظلمات"!

 

نحن، في الواقع، ما زلنا داخل الظلمات، رغم التماعاتنا الملوّنة تحت أنوار القرن الحادي والعشرين.

وما دمنا انتهينا في الفقرات السابقة إلى روسيا المقتحمة للمشهد السوري على هذا النحو الصريح في كلّ شيء؛ فإنّ جانباً من الذريعة لهذا الاقتحام جرى اشتقاقه، هذه المرّة كما في مرّات كثيرة في تاريخ الشعوب، من الاحتياطي الذي لا ينضب: الدين! وإني لأستغرب أشد الاستغراب أن تطلع علينا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بـ"فتوى" تضفي الشرعية على "الحملة الروسية" في سوريا، بإعلانها "حرباً مقدّسة" يجب خوضها!

 

صحيح أنّ جماعات العنف الدموي المكتسحة لجغرافيا المنطقة وتاريخ عقودها الثلاثة الأخيرة كانت، وما زالت، تتشح بالدين مبيحة القتل على أوسع مدى. تفعل هذا عاصفةً بجميع أغيارها من أتباع أديان أخرى، بالغةً تكفير سواها من داخل إطار دينها هي؛ إلّا أنّ الردّ على هذا الجنون الكاسح المفكك تماسك المجتمعات لا يكون بجنونٍ مماثل! والأدهى: أن تتشح به دولةٌ كانت قبل سنوات قليلة مديرة ظهرها للدين ومؤسساته!

أهي غلطة الشاطر؟ غلطة واحدة تساوي ألف غلطة؟

لسنا بحاجة لمزيد من الفتاوى لإسباغ القداسة على سفك الدماء.

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
أضف تعليقك