"الضرب في الميت حرام"

"الضرب في الميت حرام"
الرابط المختصر

 

 

ساهمت "أزمة" تعديل المناهج واغتيال الكاتب ناهض حتر في إبراز المكنون والمكون الثقافي الإقصائي المتطرف المتجذر في ضمير جانب لا يستهان به من أفراد المجتمع الذين استعذبوا الانقياد السياسي والاقتصادي فلماذا يكون الانقياد الفكري والثقافي استثناءً على هذه الحالة الرعوية التي يحياها المجتمع طائعاً غير مكره.

 

لقد دفعت حالة "الماسوشيّة" التي تعيشها الأمة منذ قرون إلى تبني الجميع لنظرية المؤامرة على اختلاف ردود أفعالهم وتفسيراتهم لكلا الحدثين. فبينما رأى البعض أن اغتيال حتر جاء على خلفية مؤامرة تستهدف "شق الصف" بين المسلمين والمسيحيين، رأى جانب آخر أن تعديل المناهج ما هو بدوره إلا مؤامرة تستهدف "الدين والهوية الثقافية للأمة".

 

واقع الحال أن جعل حادثة اغتيال حتر مرتكزاً لانقسام طائفي مقصود؛ هو تسطيح لقضية شديدة العمق عظيمة الخطر، فحتر قُتِل لأنه مارس حقه في التعبير واختلف معه قاتله ومؤيدوه من جحافل المجرمين المعنويين المحرضين على وسائل التواصل الاجتماعي، فلو كان حتر خارجاً من المسجد كان سيُقتَل أيضاً بل لكان قتلته أكثر وأحرص على نيل "شرف الانتصار لله والدين". فالكاتب الراحل فرج فودة والمفكر الكبير محمود طه وغيرهم مسلمون قُتِلوا على أيدي مسلمين.

 

الذين نَحَو بجريمة اغتيال حتر منحى طائفي هم؛ إما عاطفيون طيبوا النوايا وإما فئة مركزية أرادت  الاستثمار في هذا الاتجاه لصرف الأنظار عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية الرسمية بل والجمعية عن هذه الجريمة التي ارتكبت في عقر دار العدالة في بلدنا.

 

في المقابل، انطلقت أمواج المد الديماجوجية العاتية على ما يسمى ب"تعديل المناهج" مستثيرةً الهمم "للذود عن الدين" الذي تنال تلكم "التعديلات" من أصله وجذوره. هذا التجييش الرعوي ليس بجديد على الأمة، فلم يسجل التاريخ منهجية استمزاج من سبق من المقاتلين في ما كانوا يقومون به من احتلال للأمصار وسبي وأسر وقتل لسكّانها المسالمين. فالأمر بالجهاد لا يحتمل المناقشة أو التفكير، إذ يكفي إطلاق صيحة "الله أكبر! هلمّو لنصرة الدين!" لتزحف الجحافل مدججةً بأسلحتها دون سؤال أو فهم لمضمون وسياق وهدف تلك الدعوة. هذا الانقياد "المقدّس" في محاربة الآخر وقتله وقمعه يتخذ في أيامنا هذه شكلاً مختلفاً مع تماثل في أساس الفكرة وجوهرها. فيكفي أن تضع عنواناً حول رأي أو مقالة وتشير إلى أنه ينال من الدين؛ لتنهال التعليقات والدعوات إلى القتل والاستئصال دون بذل عناء النزول بفأرة الحاسوب لقراءة ما تحت العنوان المُبهرَج.

 

هذه الحالة من التحفّز المستمر والتعطّش للعثور على عدو لتأكيد الشعور بالتآمر على الأمة؛ تعدّ أحد مرتكزات التطرف والعنف الفكري والمادي، فمن يعيش حياته مؤمناً بأن العالم يتربّص به وبعقيدته وبهويته الثقافية؛ سوف يستعدي العالم كله بسبب وبلا سبب، دون التوقّف والتأمّل ولو للحظة حول منطقية هذا الاعتقاد المَرَضي بتآمر الآخر علينا.

 

إنّ الدول إذ تتآمر على بعضها البعض، إنما تفعل ذلك خشية المساس بمصالحها من دولة أقوى منها أو مماثلة لها على الأقل، ومن نافلة القول أننا كفينا غيرنا مأونة إضعاف أنفسنا وتفتيت أواصرنا بالتكفير والتنفير ثم الاقتتال، فماذا لدينا يمكن أن يخشاه المتآمرون؟ كيف يخشى من يمنح الغذاء والدواء والسلاح والتقنيات ممن يتسوّل منه كل هذه الأمور خاضعاً شاكرا؟ ومن جهة أخرى، هل تَرَكَ الإرهاب والتطرف وانتهاك حقوق المرأة واحتقار الآخر... جاذبيةً تذكر لأيديولوجيتنا بحيث تغدو منافسةً لغيرها من الأيديولوجيات التي تتسم شعوبها بالتسامح والتعايش واحترام حقوق الآخر حتى لو كان ممن أساءوا إليهم وتآمروا فعلاً عليهم.

 

لا بأس أن تُقنِع أمة نفسها بأنها لا تزال على خارطة التأثير الإنساني ولو باختراع أساطير الاستهداف والتآمر عليها، لكن الكارثة أن تصدق تلك الأمة كذبتها وتبني عليها ممارسات قمعية عدائية ضد ضحايا أبرياء يتم اختراعهم ثم الفتك بهم.

 

إذا كانت الدولة جادّةً في محاربة التطرف والتأسيس لجيل حر غير منقاد ولا مقيّد ينهض ببلدنا ويحافظ عليه، فعليها أن تغادر مربّعردات الفعل وإطلاق بالونات الاختبار التي باتت عمليةً كلاسيكيةً مملة، إذ يجب القيام بأخذ زمام المبادرة وتغليب المصلحة العليا للوطن على أي اعتبارات أخرى، بحيث تبدأ عملية تغيير شاملة ومدروسة ومتدرجة على مختلف الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية وذلك من خلال استراتيجية وطنية ذات رؤية وأهداف دقيقة قابلة للتنفيذ ضمن أطر زمنية محددة، وإلا سينتهي بنا المطاف إلى فوضى غير خلاقة لاتجدي معها مقولة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

 

إنّ أمةً تخشى الكلمة والرسمة والصورة، لهي أمة أوهن من أن يفكر أحد بالتآمر عليها، ف"الضرب في الميت حرام".