بات الحديث عن الحروب الدينية اليوم أمراً ملحا،ً ليس لأنه جديد، بل لأن منطقتنا العربية تشهد موجة جديدة منه، حيث كانت هذه الحروب طابعاً لعصر من عصور الإنسانية، منذ مئات السنين، خاصة في أوروبا، ولم يسلم منها العالم أجمع أيضاً، ثم انتهت تلك المرحلة بتوافقات بين الأطراف على أن الحل يكمن في العيش المشترك في حدود دولة واحدة يحكمها قانون، وقد حدث ذلك بعد صراعات دموية، وقتل واضطهاد وتدمير.
حرب الـثلاثين عاماً وقعت في ألمانيا خلال القرن السابع عشر بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهت بأوبئة ومجاعات وتدمير. ثم بلغت الحرب يبين بين الكاثوليك والبروتستانت ذروتها في فرنسا في عام 1562 واستمرت قرابة أربعين عاماً، إذ اندلعت ثماني حروب قضت على مملكة فرنسا، عندما هجمت الجماهير الكاثوليكية على الأقلية البروتستانتية في مختلف المدن والأرياف الفرنسية.
ومن أشهر الحروب الدينية كانت الحروب الصليبية، وهي سلسلة من الصراعات العسكرية ذات طابع ديني خاضتها عدد من دول أوروبا المسيحية ضد المشرق. وتشير الدراسات التاريخية إلى أنه في تشرين الأول 1095م عُقد العزم على قتال المسلمين في الشرق حين ناشد البابا أوربان الثاني رجال الدين وأمراء أوروبا بشن هذه الحرب لتخليص الأرض المقدسة من سيطرتهم إرضاء للمسيح. ومن الأفكار التي أشاعها البابوات، آنذاك، لحث الناس على المشاركة في هذه الحملات؛ اقتراب يوم القيامة، وانتهاء الحياة الدنيا، وربطوا ذلك بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل كانوا يفسرون كل الظواهر الكونية والطبيعية كالزلازل والبراكين، في ذلك الوقت كونها أدلة على نهاية الكون.
إننا أمام حالتين من الصراع الديني في العالم، الحروب الخارجية بين الأديان المختلفة، والصراع الداخلي بين أتباع الدين الواحد، ولا فرق بينهما في واقع الأمر، فالصراع الطائفي داخل الدين الواحد يقود عادة إلى صراع مع أديان أخرى، لأن فكرة التعصب الديني تنتقل من العام إلى الخاص، وهي قابلة للانقسام مع مرور الزمن، ولا يمكن التنبؤ بنتائجها، كما يصعب إقناع الأطراف بعدم جدواها، أو فشلها، أو حجم خسائرها، لأنها مبنية على أسس دينية غيبية، غير قابلة للقياس بمقاييس الدنيا، فالربح والخسارة فيها مرتبطة بإرادة الله، وليس بإرادة البشر، وما الناس المشاركون فيها إلا أدوات تحركها قوة "الرب" ورغبته، ويكون الإنسان مسلوب الإرادة ولا يحق له أن يفكر أو يقرر، لأن كل شيء معد سلفاً من الله، وما عليه إلا التنفيذ، وأن الموت والحياة لا يخضعان لأسباب دنيوية كما في الموت العادي، فمن يموت فيها هو شهيد مُكرَّم، وحي لا يموت.
إن أغلب الحروب التي سمحت باحتلال الشعوب الأخرى، وأعطت لنفسها الحق في استباحة أوطانها، قد قامت على شعارات دينية، منذ فتوحات المسلمين العسكرية، ومروراً بحروب المسيحيين ضد المسلمين وقتلهم وتشريدهم، والإبادة الجماعية لبعض الطوائف الدينية، كاليهود والأرمن، واحتلال اليهود لفلسطين باسم "الرب" وتشريد أهلها باسم الحق المقدس في الأرض، وليس انتهاء بالاحتلال الأمريكي للعراق. وكل ذلك جاء تحقيقيا لرغبة "الله"، وحباً في نشر المبادئ التي أمر بها.
اليوم، نعيش في العالم العربي أزمة الدين وحروبه من جديد، وبطريقة جديدة ومبتكرة أيضاً، حيث تتوافر الأدوات المتطورة والمدمرة، ونمتلك كل المقومات الكفيلة بإدامة هذا الصراع وتعزيزه، فهناك تاريخ وتراث وأدبيات دينية لا حصر لها، وهناك مراجع دينية تمارس الفتوى بكل أشكالها، من السحر والشعوذة والخرافات، إلى القصص الخارقة والمعجزات، وتدعو لدخول الجنة من خلال الدم والقتل، وهناك ظروف اجتماعية وثقافية تدعو للتعصب ومعاداة الآخر، وهناك تعليم ديني يغيب العقل ويعظم من الأوهام، وخلفه شيوخ ودعاة يتلونه علينا آناء الليل وأطراف النهار، وهناك ظروف سياسية جعلت السلطة حكراً على فئات متنفذة ومنتفعة، واضطهدت الآخرين باسم الدولة الموهومة، وهناك ظروف دولية وإقليمية تتنافس للسيطرة، وزيادة النفوذ، وتدير ملفاتها وعلاقاتها باسم "دمنا المقدس".
لابد أن الحروب الدينية في منطقتنا ستستمر عشرات السنين، ويموت فيها مئات الآلاف، وتدمر الزرع والضرع، لنكتشف –ربما- بعد كل ذلك أن ما حصل كان يمكن تجنبه لو اقتنعنا أن الدين حرية شخصية لا نملك الحق في محاكمة الناس على أساسها، وأن الحروب الدينية هي تعبير عن مصالح إنسانية، وصراعات سياسية، وليس للرب أي علاقة بها.
- كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.