السير في الاتجاه الخطأ!
ليس من السهولة على أي وزير إعلام جديد أن يملأ الفراغ الذي تركه طاهر العدوان، سواء بقامته السياسية أو حضوره الطاغي في المشهد السياسي، أو حتى حجم الاحترام والتقدير الذي خرج به من حكومة كانت –وما تزال- تعاني مع الشارع.
وإذا كان الرئيس معروف البخيت قد أكّد في لقائه الأخير (الأسبوع الماضي) مع المواقع الإلكترونية أنّه لا توجد هنالك تشريعات ضد الحريات الإعلامية، فإنّ هذا لا ينفي أنّ هنالك أزمة دائمة بين المطبخ السياسي والوسط الإعلامي.
بدايةً، لا يمكن أن نقفز على حقيقة ضرورة "ترتيب البيت الإعلامي" داخلياً، وبوجود مساحات من الخلل فيه، وأنّ على الوسط الإعلامي أن يتولى إزالة هذه التشوهات المحدودة، ذاتياً، وبوساطة مؤسساته المستقلة. إلاّ أنّ الحقيقة الأخرى هي أنّ مصدر انزعاج المسؤولين ليست تلك "الاختلالات"، بل على النقيض من ذلك تماماً، هي سقف الحرية المرتفع في بعض وسائل الإعلام والأقلام، والدور الذي قام به الإعلام في كشف ملفات مهمة أثارت الرأي العام. في نهاية المطاف وصل "التفكير الرسمي" إلى قناعة عملية بضرورة "احتواء الإعلام"، والاقتداء بتجارب دول عربية أخرى، قامت بتدشين محطات فضائية خاصة وتسيير صحف وأقلام لتحسين صورة السياسات الرسمية والدفاع عنها. هذه القناعة هي وليدة قناعة أخرى تتمثّل في أنّ الإعلام محرّك رئيس ولاعب خطير في الأزمة السياسية، وأنّه المسؤول عن إثارة الرأي العام في قضايا متعددة خلقت "صداعاً" لدى الدولة، خلال السنوات الماضية، ما يعني أنّ التعامل معه يحظى حالياً بأولوية رئيسة لدى "المسؤولين".
مشكلة هذه القراءة الرسمية أنّها تقع في ثلاثة أخطاء كارثية:
الأول؛ أنّها تختزل الأزمة السياسية بمسؤولية الإعلام، في حين يعرف الجميع أنّ الإعلام لا ينقل إلاّ جزءاً يسيراً مما يحدث في الشارع، وأن ما يكشفه من قضايا أقل بكثير مما هو مطبوع في "المزاج الشعبي"، بل ربما يمارس الإعلام التقليدي دوراً أكبر في التهدئة وعقلنة الحوار.
الثاني؛ أنّ مصداقية بعض وسائل الإعلام والأقلام وحضورها لدى الرأي العام هو بمقدار مصداقيتها وسقفها المهني، فإذا فقدت ذلك فستفقد التأثير، لينتقل إلى "مؤسسات أخرى"، لكنه –بالضرورة- لن يتحوّل إلى وسائل إعلام مهمتها التطبيل والتزمير للسياسات الرسمية.
الثالث؛ أنّ مفهوم الإعلام نفسه قد تغيّر اليوم، بل إنّ الاتجاه الصاعد هو للإعلام غير التقليدي، وتحديداً للإعلام المجتمعي الذي يصبح فيه كل مواطن إعلامياً، وتتشكل فيه قنوات التأثير والقوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، والعالم الافتراضي، قبل أن تنتقل إلى العالم الواقعي.يمكن ملاحظة هذه التحولات البنيوية الهائلة في الربيع الديمقراطي العربي، فالثورتان المصرية والتونسية هما وليدتا تجمعات "الفيسبوك"، فيما الثورة السورية اليوم هي صنوان "يوتيوب"، الذي بات يتجاوز بتأثيره فضائية كبرى مثل "الجزيرة"، بل وتعتمد عليه في مادتها الإعلامية.إذن، الاحتواء الناعم أو الخشن للإعلام هو استراتيجية محكومة بالفشل مسبقاً، ولن يجدي تبنيها في تخفيف حدّة الأزمة السياسية، وبدلاً من ذلك فإنّ الحل هو في تقوية الإعلام المهني الحر المستقل، وتعزيز مفهوم المسؤولية الأخلاقية، ذاتياً. وبالطبع فإنّ البضاعة الجيّدة ستطرد الرديئة من السوق.فوق هذا وذاك، فإنّ وجود إعلام مهني محترم مستقل، يخدم مصالح الدولة العليا في نهاية المطاف، ويمنحها مصادر من القوة الكبيرة، حتى وإن لم يخدم السياسات الرسمية في هذه اللحظة أو تلك.
نضع هذه القراءة بين يدي الوزير الجديد، عبدالله أبو رمان، حتى لا يقع في خطأ القراءة الرسمية السابقة، التي تذهب بالجميع في الاتجاه الخاطئ.