السلفيّة والنّص والعنف

السلفيّة والنّص والعنف
الرابط المختصر

 

 

 

 

لا يمكن قياس الظواهر العامة بسلوكيات فردية، لذا حين نناقش العنف فإننا نقصد به ذلك المركب العضوي الذي يدخل في صلب التكوين الفكري للفكر السلفي، وقد لا ينطبق ذلك على أفكار بعض الأشخاص أو طريقة تعاملهم مع هذا الفكر، والتجربة الشخصية لا تبرر السلوك الفكري العام.

 

السلفية -كما نعرفها- هي ذلك الفكر الذي يستقي مرجعياته ومصادره ومنطلقاته وتطلعاته من الماضي، وما فيه من تراث، وأهم مصادره هي؛ القرآن الكريم والسنة وممارسات السلف الصالح، وهذه المصادر الثلاثة الرئيسة يتم التعامل معها بطرق مختلفة، وأهمية مختلفة كذلك.

 

نظرياً؛ يعد القرآن الكتاب الأول وهو المصدر الأساس، لكن الواقع العملي ليس كذلك، إذ تتم قراءته بمنهجية تقليدية سطحية تهتم بالألفاظ والكلمات بنوع من التقديس الشكلي، أو ربما الوثني، لدى بعض المسلمين، ما أسميه "وثنية الكلمة"، أي عبادة الكلمات والحروف، والقراءة السلفية للقرآن تقوم على المعنى المسطح والمجزأ من دون النظر للسياق والظروف والتاريخ، وهي أيضاً قراءة حدية غير قابلة للتأويل، مما يعني أن القرآن نص جامد مختصر وموجز، وهو لذلك يحتاج إلى ما يفسره، ومن هنا صار دور السنة والحديث مهما جداً، حتى إنه –عملياً- يفوق دور القرآن، فهناك آلاف الكتب في الحديث ودراساته، وفي المقابل ليس هناك سوى بضعة كتب في القرآن ودراسته، وليس المقصود هنا كتب التفسير أو اللغة التي شرحت معاني الكلمات والألفاظ والعبارات وإعرابها وصرفها.

 

دائماً هناك من يقول لك إن القرآن لا يفهمه إلا العلماء ومن فتح الله عليهم! رغم أن الله تعالى يقول: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر"، وقوه أيضاً: "وهو الذي أنزل إليك الكتاب مفصلاً"، و"ما فرطنا في الكتاب من شيء"، فلماذا يأخذ "الحديث" كل هذه الأهمية عند السلفيين؟

 

تفسير ذلك ربما يكون مبنياً على المنهجية التي يتعامل بها الفكر السلفي مع الواقع، فالقرآن نص مفتوح على الزمان والمكان، وهو يتحدث عن مبادئ عامة وإنسانية، والفكر السلفي مبني على تعظيم التاريخ وتمجيد الماضي، والسير على خطى السلف، والحديث هو الذي يحقق هذه الغاية بوصفه تطبيقاً سلوكياً عملياً للقرآن، فما كان يقوله الرسول عليه السلام أو يفعله هو مبني على الرؤية القرآنية الكلية المرتبطة بالواقع الذي كان يعيشه الرسول وصحبه.

وما يزيد من أهمية وجهة النظر هذه وجود المصدر الثالث لدى السلفيين- وهو تاريخ السلف وسلوكهم- الذي أخذ أهمية كبرى، قد تفوق من الناحية العملية أهمية القرآن كذلك، فهناك تمجيد للماضي وتقليد لما كان يفعله السابقون، وجعل التجارب التاريخية بمستوى المرجعية التي يجب السير على هداها وخطاها.

 

تعرّض تعامل السلفيين مع النص لمشكلة كبيرة، حيث كان من المفترض أن يكون القرآن نصاً ذا أبعاد كونية عالمية، لأنه من الله المطلق، وما يصدر عنه يحمل صفاته، لكن ما حدث هو خلاف ذلك، فصار الفكر السلفي منحصراً بمجموعة ضيقة، ومنكفئاً على ذاته، ومتطلعاً للوراء لعله يتلمس خطى السائرين منذ آلاف السنين، فقد ترك الآية الواضحة "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، وراح يبحث عن الخطى المندثرة، "إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم لمقتدون".

 

تحول القرآن من نص كوني إلى نص التاريخي، وفق الرؤية السلفية، فحصل التصادم بين الماضي والحاضر وبناء المستقبل، مما شكل حالة من الإرباك في العمل، وصار الفكر السلفي يمسك بحُجز الناس ليضعهم على طريق السلف، ويسيّرهم على الآثار التي لا تكاد تبين، ولم يسع لصناعة توجهات ومبادئ من هدي القرآن ليسير عليها الناس حسب ظروفهم وطاقاتهم وزمانهم، "أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم"، فمن يسير وهو يتلمس آثار غيره وينظر إلى قدميه مكباً على وجهه سوف يتعثر وتضيع خطاه.

 

وما كان من الفكر السلفي إلا أن أباح قتل المخالفين لخطوات السلف، رغم أن تلك الخطى ما هي إلا آثار تصعب رؤيتها، وتتوه الأقدام التي تلاحقها، وبما أن الحديث وخطى السلف وتاريخهم قد كانت المراجع الأهم فلم يعدم هذا الفكر الفتوى التي تبيح القتل باسم الله ومخالفة شرعه، وكانت تلك الفتاوى مدعومه بمرجعيات نصية من التاريخ الإسلامي وصراعات السياسة فيه، بالإضافة للقراءة الحديّة للقرآن -كما ذكرنا سابقا- فهناك آيات كثيرة تتحدث عن القتال والقتل وتدعو لقتل المشركين والكفار، "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، و"قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة"، وكل من ليس بمسلم بالمعنى السلفي فهو كافر أو مشرك، ولا غضاضة في قتله أينما كان وأينما حل.

 

تلك هي الفكرة السلفية بمعناها المنهجي، باعتبارها طريقة تفكير تؤدي إلى نتيجة معينة، وأي تطبيق قد يكون ممكناً إذا وجد النظرية التي تؤسس له، وحين يقبل السلفي بنظام حكم، فإنه يكون قد برره شرعياً بما ينسجم مع مقدماته، حيث سيعتبر هذا الحاكم أميراً للمؤمنين، وراعيا للملة، ووليا للنعمة، وغير ذلك سيعتبره طاغوتاً ظالماً مخالفاً لشرع الله وحكمه، وأن التوقف عن العنف لابد أن يكون له مسوغ من التاريخ يجعله مقبولاً، وإلا فإما الإسلام أو السيف.

 

  • د. يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.
أضف تعليقك