السلطةُ لا تخجل
في الأردن يُصبحُ الرجلُ وزير شباب، وبيئة، وثقافة، ثمّ زراعة، وداخلية، وفي فترات الاستراحة بين الحكومات يُعيّن عضواً في مجلس الأعيان، أو سفيراً، أو رئيساً لمجلس إدارة شركة تساهم فيها الحكومة، وتبقى عينهُ مفتوحةً على أيّة حقيبة وزارية محتملة، والتخصّص ليس مهماً، فالطاقة النووية، لو توفّرت، لا تختلف عن التنمية الاجتماعية، وهكذا.
ولا غرابة، فقد يترأس وزيرُ داخلية اجتماعاً للحكّام الإداريين ذات أحَدٍ، ويحثّهم على الصرامة الأمنية مع المظاهرات، وبفضل تعديلٍ وزاريّ، يصبحُ نفسه وزيراً للثقافة ذات أربعاء، ويدعو إلى "حواضن" ضامنة لحرية التعبير، ويتحدّث باستفاضةٍ عن تنمية المسرح والفن التشكيلي.
حين تتصفّح السِيَر الذاتية لمعظم الوزراء، تجد عبارة متكررة: " كان وزيراً، ثمّ عُيِّنَ وزيراً في حكومة فلان". تقرأ تخصصه الأكاديميّ، ومساره المهنيّ في البيروقراط الأردنيّ، فتجد أنه عملَ سنواتٍ قليلة في وزارة التربية والتعليم، مثلاً، ولكنه قفز إلى وزارة الداخلية، ودائماً يقفزُ معه تبريرٌ مألوف، عن طبيعة المنصب الوزاريّ في رسم السياسات، وذلك لا يشترطُ معرفةً بالتفاصيل الفنية في عمل الوزارة، وتلك ظاهرةٌ عامةٌ، لا تخصُّ أحداً بعينه. هي تخصُّ ذهناً فاسداً ومسؤولاً عن زراعة اليأس، وريّهِ، وتسميدهِ، ودعوة الناس ليحصدوه شوكاً كل يوم.
لأنه رسّام سياسات، يفشلُ في وزارة (أ)، فيُعطى فرصةً ثانية في الوزارة (ب) وثالثة في (ج). ولتعميم الفشل على المستوى الوطني يُصبح وزير دولة، أو نائب رئيس وزراء. لا يتقاعدُ أبداً، فثمة مجالس الشركات والسفارات ومجلس الأعيان، وفيها أيضاً يعودُ لهوايته المفضّلة في رسم السياسات، إلى أنْ يهرمَ، ويتفرّغ للجاهات والمناسبات العشائرية، ويكون أبناؤه قد أنهوا دراستهم في الجامعات الأجنبية على نفقة الدولة، ثمّ تبدأ مراسمُ التوريث، كما تنشرها الصحف. ليس كما نتخيّلها. أصلاً السلطةُ لا تخجل منها، ولا منّا.
هذا فسادٌ عميقٌ ومعروفٌ في بنية الدولة الأردنية. لا تُعالجه هيئاتُ النزاهة، والمجالسُ النيابية، ولا القضاءُ نفسه. السلطةُ أنشأت طبقتها على الطاعة والولاء والمصالح الدائمة. وتركتها تنسجُ شبكةً متينةً وممتدةً عبر تشكيلاتٍ اجتماعيةٍ أخرى، وعائلاتٍ، وأجيالٍ. هي الطبقة الأكثر تماسكاً ونفوذاً، ولا يمكن اختراقها أبداً، وقد تشكلت مؤسسياً على قوانينها وقواعدها الذاتية، وأصبحت هي القانون.
موسميّاً، تأخذُ الحماسةُ الدولةَ الأردنية في استعراضات محاربة الفساد، وتتذكر أنّ لدينا أنظمة حكومية للتدقيق، منذ كان ديوان المحاسبة يُسمّى "دائرة مراجعة الحسابات" في العام 1928، ولديه تقاريرُ سنويّة تكتظُّ بالمخالفات والانتهاكات والاعتداء على المال العام. لكنّ الطبقة إياها وجدت دائماً الآليات الملائمة لاحتواء التقارير وتبريدها، إلى أنْ دخلت البلادُ أوان العقد الأخير من القرن الماضي في حقبة الخصخصة وبيع المؤسسات، وعرف الأردنيون خفايا الفوسفات والكهرباء والمياه وشركات الاتصالات، ثم فضيحة التسهيلات المصرفية، وغيرها، وانفعلت حكوماتٌ عدة في التهديد بمطرقة القانون على "يد الفاسدين" أثناء خطابات الثقة أمام البرلمانات، وغالباً ما كانت تُدفن القضايا الكبرى تحت القبة.
اليوم. البرلمانُ منفعلٌ، ويحوّلُ ملفاتٍ قديمة إلى النائب العام. كلنا يعرفُ المكانَ الملائم لدفن الماضي..!
باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.