السلطةُ في غرورها.. وغفلتها
تُجرِّبُ الدولةُ الأردنيَّةُ كثيراً من الوصفاتِ والتدابير والحلول، إلاّ الذكاء. تتجاهلهُ، وربَّما تكرههُ إلى الحدّ الذي يجعلها تواصلُ توقيفَ الكتابةِ، من حيثُ لا يمكنها وقفها، ولا تعطيل مفاعيلها، وبالكاد، تستطيعُ حجزها وراءَ مانعٍ ماديّ، ولا مظهرَ أكثرُ بؤساً من اعتقالِ إنسانٍ يكتبُ. لا يؤسِّسُ خليةً، ولا يزرعُ قنبلةً، ولا يعرفُ استخدامَ سِكّين الفاكهة.
الذكاءُ، بصفتهِ قدرةً على القراءةِ، والتحليل، وتتبُّعِ سلسلةٍ من المعطياتِ، والأسباب، يبدو كمهارةٍ، تنقصُ السلطةَ في بلادنا، ولا نحتاجُ كثيراً من الأدلةِ على غيابها. أوّلها أنّ أجهزةَ الدولةِ الأمنيةِ التي تحتكرُ فهمَ القانون وتطبيقه، تجرُّ المجتمعَ إلى مستوى ضحلٍ من التعاطي مع أزماته. فإمَّا أنْ يدفعَ الثمنَ في التعبير عن مخاوفه وقلقه. أو أنْ يصمتَ، فيدفعَ الكلفةَ مضاعفة.
ما الذكاءُ في اعتقال الناشطين والكتّاب، فيما الكتابةُ باتت ممارسةً شائعةً وسهلةً، لكلّ مَنْ يملكُ هاتفاً ذكيّاً، وحساباً في بنوكِ الشبكةِ المتنافسة على مَنْ يضعُ محتوىً أكثرَ قابليّةً للتداولِ. ما الذكاءُ في وضعِ منصّةٍ، مثل "فيسبوك" مثلاً رهنَ الإعتقال، تحتَ رحمةِ الحكّام الإداريين، بينما يبدو تسكينها في قصر العدل نفسه شكلاً من أشكال الخيالِ الافتراضيّ/ السورياليّ.
إنّها لعنةُ السلطة، في أقصى ما تطمحُ إليه من غرور، وأكثر ما تذهبُ إليه مِنْ هشاشة. ولا بؤسَ أبعد من توقيف مُدوّنٍ، يعاني من مشكلاتٍ أساسية في الكتابةِ بإملاءٍ صحيح، ولغةٍ سليمة. وذلك كما يحدثُ في بلادنا، عندما نقرأُ خبراً عن إحالةِ شابٍ إلى القضاء، بعد توقيفهِ أسابيعَ، لأنه كتبَ، أو سجّلَ مقطعَ فيديو عن قضايا وشؤونٍ، لا تتعلقُ بأمنِ الدولةِ تقليديّاً، كارتفاعِ الأسعار، أو كجدالاتٍ دينيةٍ، وانتقاداتٍ للفساد، ومؤسساته، أو مقاطعةِ شركاتٍ رأسماليةٍ، توحّشت ضدَّ مصالحه المباشرة.
لقد وقعَ المدوِّنون في المنصات الاجتماعية الرقميّة في خديعةٍ والتباس. فهم يعرفونَ "الخطوطَ الحُمرَ" الكلاسيكيّة للسلطة، ويتحاشونها، بالقدرِ الذي يسمحُ لهم بهوامش للمناورة. ليس في بالهم أنَّ تلكَ الخطوط تغيّرت. الواقعُ أنَّها تغيّرت، بسبب تأويلِ المحتوى، وليس بسببِ الخطاب المباشر فيه. فأنتَ تستطيعُ انتقادَ نظامِ التعليم، ولكن عليكَ تجنّب نمطٍ معيّن من المدارس الخاصة، فأنتَ هنا تمسُّ أشخاصاً متنفذين، عديمي الصبر والاحتمال. بإمكانكَ أنْ تتحدّثَ عن الفساد في القطاع الخاص، غيرَ أنَّ عليكَ الحذرَ من حلفاء السلطة. وفي كلّ الأحوال لا تقتربْ من دين الدولة، فهو دينٌ انتقائيٌّ، يقتلُ كاتباً معارضاً، ويطردُ فنانةً من نقابتها، ودائماً يجعلكَ هدفاً سهلاً لملاحقةٍ قضائية.
كانَ ذكاءُ الدولة الأردنية ذكاءً متّفقاً عليه. يسجنُ ليث شبيلات وتوجان فيصل، بخطوطٍ حُمرٍ متوقّعة، وقد يلحقُ بهما في الإطار الشعبويّ المشاغبِ نفسه عاقٌّ مفاجئٌ للسلطة، مثلَ أحمد عويدي العبادي. على أنَّ الأمورَ ظلّت مفهومة، وغير مرتبكة وصادمة كما هي الآن، فالدولةُ النافذةُ التي استقوت على مفهومِ الدولةِ، وأحالتها إلى التقاعد، وربَّما إلى الغموض، زادت من ترسيم الخطوط الممنوعة، ويقيناً أنَّ وراءَ كلّ خطٍّ يحظرُ الاقترابُ منه خللٌ عميقٌ، لا يُجدي معه اعتقالٌ ومنعٌ وقمعٌ، والتجاربُ خيرُ برهان.
هكذا. مثلما يُطلبُ مِنَ الموظّفين اجتيازَ اختباراتٍ معيّنة لتحصيلِ وظائف، فإنَّ على الدولةِ الأردنيّةِ أنْ تحاولَ في امتحانها الأخير أنْ تفوزَ بـ"وظيفتها"، ولا طريقَ ممكناً إلا الذكاء..
باسل رفايعة: صحافيٌّ أردنيٌّ، عملَ في صحفٍ يوميّة محليّة، وعربيّة.