الدولة تغيب والفتوى تحكم

الدولة تغيب والفتوى تحكم
الرابط المختصر

أن يخاطب فرع يتبع مؤسسة المواصفات والمقاييس، في إحدى المحافظات، دائرةَ الإفتاء مباشرة يطلب الحكْم في بيع مادة تجارية، ويصبح تحريمها تداول هذه السلعة نافذاً في لحظته، فهذا يعني أننا نخضع لحكْمٍ ديني متطرف، بالنظر إلى سلسلة الأحكام الصادرة منذ تأسيس "الإفتاء" وحتى يومنا هذا.

تدعي الدولة الأردنية مواجهة التطرف، بينما يمارس مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية سلطته على جميع مؤسساتها إلى درجةٍ باتت هذه المؤسسات تبادر من نفسها بالسؤال عن الفتوى لا رأي القانون.

ماذا لو أفتى "المجلس" بحرمة إدخال أجزاء من الجثث الآدمية عبر المطار لصالح الجامعة الأردنية، هل سيعني ذلك عدم تمكن طلبة كلية الطب البشري دراسة مساق التشريح؟ تساؤلٌ يلح لدى مشاهدة مسؤولي الدولة وموظفيها يتسارعون للحصول على غطاءٍ شرعي لتنفيذ واجبهم المعتاد أو معاينة كل ما يستجد عليهم.

إدارة الدولة تفترض رؤية شاملة واستراتيجية لا أن تخضع لإرادة جهة تنظر إلى الأمور من زاويتها الخاصة ومن موقعها العابر والمؤقت، خاصة عند التدقيق بمئات الفتاوى الرسمية المتشددة، وكثرة طلبات الفتوى المقدّمة، وهو يؤشر على خطورة المرحلة التي نعيشها، وتغوّل رجال الدين على جميع مناحي الحياة.

تحرّم دائرة الإفتاء مصافحة الرجل المرأة، ومحادثتهما عبر الانترنت، والاختلاط في التعليم، وسفر المرأة وحدها خارج البلاد، والتدخين والأرجيلة، والموسيقى، ولعب النرد والورق “الشدة”، والعمل في البنوك والفنادق وكثير من المنشآت السياحية.

ولا تترك قضيةً دون التدخل بها، فليس في قاموسها الرد بـ"لا أعلم"، حيث تبدي استعدادها للحكْم على مسائل يستغرب المرء طلب الفتوى بها مثل: استعمال النمل في وصفه طبية لإزالة الشعر الزائد، أو المشاركة في مسابقة، أو مشاهدة المسلسلات الاجتماعية.

ولا نجد إجابةً شافيةً لموقف "الإفتاء" من المعاملات المالية، فهي تحرّم العمل في جميع البنوك "الربوية" بما فيها البنك المركزي، والاقتراض منها ما عدا البنك الإسلامي، وكذلك شركات التأمين سوى الإسلامية، بل يظن المرء أنها تنحاز إلى مؤسسات الإخوان المسلمين المالية.

"إنحياز" يتجاوز ذلك بالوقوف إلى جانب أرباب العمل في القطاعين العام والخاص، فكلما ظهر أن اعتصاماً أو إضراباً لعّمال سيحرج مؤسستهم سارعت "الإفتاء" إلى التذكير بـ"حرمة" التغيب عن العمل دون عذر، وبالطبع لن يصدر عنها كلمةً واحدةً تتحدث عن انتهاك حقوق العامل وخياراته في استعادتها.

عقلٌ واحدٌ يدير المؤسسة الدينية الرسمية، إذ تحذر دائرة قاضي القضاة في تقرير صدر عنها، مؤخراً، من ارتفاع متوسط سن الزواج، وتغمض عن فتاوى تبيح تزويج فتيات لا تتجاوز أعمارهن الخامسة عشر. ويستنكر وزير الأوقاف الدعوة إلى القتل وتكفير الناس على لسان بعض الخطباء، متغافلاً عن الدعم الرسمي للتيار السلفي وتعزيز دوره في الخطابة والإمامة، منذ فترة طويلة، في سياق الخلاف مع تيارات أخرى.

إذا كان فقهاء السلطة وشيوخها -على اختلافهم- يزدرون الأدب والفلسفة والمنطق، ويعادون المرأة والحداثة والفنون وقيم التنوير جميعها، فكيف سنحارب التطرف بأدوات لا تقل تطرفاً!

آن الأوان للاعتراف بأن ما زرعته الدولة من تشددٍ وتعصبٍ تجنيه اليوم خراباً ووبالاً.

 

·        محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

 

أضف تعليقك