"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر (3/3)

"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر (3/3)
الرابط المختصر

 

 

(هذا المقال جزء ثالث وأخير من ورقة بحثية تحمل العنوان نفسه، وهي مكونة من ثلاثة أجزاء تنشر تباعاً في تكوين/ عمّان نت).

 

3- ما هي أهم التقييمات الأكاديمية المعاصرة للدولة الدينية؟

من الصعب للغاية الحصول على تقييم عام من مختلف وجهات النظر لفكرة قيام دولة دينية معاصرة بسبب التباين الحاد حولها لكونها قضية جدلية سياسية، ولهذا سنكتفي هنا بعرض أهم التقييمات الأكاديمية لمثل هذه الفكرة.

 

لعل بعض أهم الانتقادات لفكرة الدولة الدينية الثيوقراطية تأتي من أوساط بعض الأكاديميين الإسلاميين المنادين بالدولة الإسلامية، فعلى سبيل المثال وفي سياق تفريق فكرة الدولة الدينية الإسلامية عن الدولة الثيوقراطية يقول جعفر شيخ إدريس ("الدولة الدينية والدولة المدنية"، البيان-مركز البحوث والدراسات، 31-5-2011) إن الدولة الثيوقراطية لا يمكن فيها أن يختلف أحد مع الحاكم، ولا يمكن محاسبة ذلك الحاكم. لكن إدريس يرفض بقوة وصف الدولة الإسلامية بأنها مدنية، مشدداً على أنها دينية، وإن كان الحاكم في الدولة الإسلامية يتشابه مع الحاكم في الدولة المدنية بأنه يمكن محاسبته ومخالفته، أي أن الدولة الثيوقراطية تتصف بالفردية وعدم القدرة على محاسبة الحاكم.

 

ويمكن القول إن الدول الدينية بمجملها سواء أكانت إسلامية أم مسيحية أم غير ذلك تتميز بصلاحيات كبيرة للحاكم أو لرجال الدين. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي كان الخليفة مطلق الصلاحية، ويمارس قسوة كبيرة ضد مخالفيه، باستثناءات قليلة توزعت على فترات متقطعة حكم فيها خلفاء كانوا أكثر التزاماً بالشورى. وفي هذا الصدد يرى نبيل هلال هلال ("خرافة اسمها الخلافة"، دار مصر المحروسة، 2010، ص 23-29) أن الخلافة التي قامت في التاريخ لا تختلف فعلياً عن حكم الفرعون أن القيصر أو أي حاكم مستبد في ذلك العصر، وأن المسألة تتعلق بالتحالف بين السلاطين ورجال الدين لتسويغ الحكم المستبد والاسستفراد بالثروات دون عامة الناس، حيث قام السلاطين بتحريف الدين وتزييف السنة لتبرير حكمهم واستيلائهم على الثروة. ويضيف هلال أن الدولة الدينية التي تتحدث عنها تيارات الإسلام السياسي ممثلة في التاريخ بالحكام المتتالين، وأن الدولة المثالية التي يطلبون تحقيقها غير واقعية ما دامت لم تتحقق على أرض الواقع طيلة 14 قرناً سوى لفترة لم تتجاوز 40 عاماً. ويرد الشيخ راشد الغنوشي على ذلك ("الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، آب 1993، ص 307) بقوله إن الاستبداد لم يكن من صلب تعاليم الإسلام، ويستشهد على ذلك بتكرار قيام الثورات ضد الحكام، وبأن الاستبداد لم يكن حكراً على المسلمين، وأن التاريخ الإسلامي لم يكن سلسلة متوالية من أنظمة الجور بل كانت الشريعة أو أجزاء منها نافذة ويستمد منها الحاكم مشروعيته.

 

يناقش بعض الكتاب من ناحية أخرى ضرورة أو عدم ضرورة وجود دولة إسلامية أصلاً، ففي كتابه ("الدين والدولة وتطبيق الشريعة"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1996، ص 65-66) يقارن محمد عابد الجابري بين عاملين ينفيان ضرورة وجود دولة إسلامية وعاملين آخرين يؤكدان ذلك، إذ يؤكد أنه لم يكن ممكناً إطلاقاً الجزم بما إذا كان النبي محمد وضع بين أهدافه إقامة دولة، ويشير إلى رفض النبي لعرض قريش بتوليته الزعامة مقابل التخلي عن نشر الإسلام، مستنتجاً أن الهدف كان -على الأقل في البداية- نشر الدين الجديد وليس إقامة دولة. ويشير الجابري كذلك إلى أنه لا يوجد في القرآن دعوة واضحة إلى إقامة دولة أو خلافة أو ما شابه. لكنه في المقابل يشير إلى حقيقتين مقابلتين أولاهما وجود نصوص شرعية تستوجب وجود سلطة تقوم بتنفيذها، كحدّ السرقة، والثانية أن تنفيذ الأحكام الشرعية ومن بينها الجهاد والفتح أدى إلى تطور الدعوة إلى دولة. ويرى الجابري أنه لا يمكن الخروج بنتيجة حاسمة في الموضوع. لكن الشيخ راشد الغنوشي يناقضه في ذلك حيث يرى ("الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، آب 1993، ص 89) أنه لم يعد أحد من الباحثين يناقش في أن الإسلام دين من ناحية ودولة من ناحية أخرى، وأنه لم ينكر ذلك سوى عالم واحد من المعتزلة وفرع صغير من الخوارج.

 

ويرى جمال البنا ("مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث وبحوث أخرى"، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، 1994، ص 20-21، 33-40 ) أن الدول الإسلامية الحديثة فشلت، مرجعاً فشلها إلى "عدم تقديم الرؤية السليمة للدولة الإسلامية التي تميزها عن غيرها وتضمن مقومات النجاح"، حيث يضيف أن العجز عن تقديم تلك الرؤية يرجع إلى أن صورة الدولة الإسلامية التي أقامها النبي والخلفاء الراشدين قد تم طمسها في الفكر السياسي الإسلامي، واعتبرت مما لا يمكن تكراره.

 

ويجمل البنا القضايا التي يجب أن يواجهها دعاة الدولة الإسلامية بما يلي:

1- كرامة الإنسان، حيث تم تجاهلها في معظم الأدبيات التي تتحدث عن الدولة الإسلامية وتم استبدالها بمفهوم "العبودية لله"، كما أن المواطن المسلم يكاد يكون شيئاً في الدول الإسلامية الحديثة.

2- الحرية، حيث يرى البنا أنه لا يوجد تأصيل لمفهوم الحرية في أدبيات الداعين للدولة الإسلامية. وإذا ما ورد حديث عن الحرية في أدبيات الدعاة الحديثين للدولة الإسلامية فإنه يتعلق بحريتهم هم لا بحريات الآخرين. ويشير خصوصاً إلى موقف هؤلاء الدعاة من مسألة الردة عن الإسلام حيث أنه يرى أن ذلك الموقف يمثل سقوطاً ذريعاً في اختبار الحريات.

3- العدل، حيث يشير البنا إلى ضمور الإحساس بالعدل وضحالته في الفكر السياسي الإسلامي وفي تجارب الدول الإسلامية.

4- المرأة، حيث يرى أن المرأة في الدعوات الإسلامية المعاصرة تتخلف عما كانت عليه أيام النبي، حيث كانت النشاء تشهدن الصلاة في المساجد وتناقشن النبي والخلفاء، وهو ما لا يرد في الحركات الإسلامية المعاصرة. ويقول البنا أن "عوامل سيكولوجية وتقليدية قد تحكّمت بحيث أصبحت قضية المرأة إحدى عقد الدعوات الإسلامية وأصبح الحجاب رمزاً للإسلام".

5- الفنون والآداب، إذ أن المفهوم الشائع لدى دعاة الدولة الإسلامية أن هذه الفنون والآداب تفتح الباب أمام إشاعة الفحشاء والمنكر.

ولعل الموقف من حرية الاعتقاد سبب الكثير من النقاش حول مفهوم الحرية في الدولة الإسلامية. وفي هذا الصدد يرى الشيخ راشد الغنوشي ("الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، ص 50) أن الردة جريمة سياسية لا علاقة لها بحرية الاعتقاد، وأن هناك فرقاً بين الحالات الفردية من الردة والتي تواجه بالتوعية والتحصين والتربية، وحالات تبشير وردة منظمة ومخططة بهدف الإطاحة بالدولة.  ومع ذلك فإن معظم الحركات الإسلامية تتمسك بحدّ الردة.

 

ويضيف برهان غليون ("نقد السياسة: الدولة والدين"، الطبعة الرابعة، الدار البيضاء، 2007، ص -476) أبعاداً جديدة إلى تقييم فكرة الدولة الإسلامية بوصفها دولة دينية، حيث يرى أن استلهام القيم الدينية في السياسة لتحقيق أغراض أخرى غير المصالح البشرية يؤدي إلى استحالة التقدم في العمل السياسي، حيث أن النماذج الحديثة أثبتت أن ذلك الاستلهام يؤدي إلى تداخل مهام الرعاية ومهام الهداية، حيث أن هدف الدين هو تغيير عقائد الناس وتكوين ضمائرهم والاعتماد عليها لإقامة العدل. أما هدف السياسة فهو رعاية الناس وحماية مصالحهم. ويرى غليون أن أغلب الإسلاميين لديهم خلط بين انتمائهم للتيارات الإسلامية والانتماء إلى الإسلام، ما يجعلهم يشكّون أن من لم يحذ حذوهم ليس مسلماً تماماً أو أنه ناقص الإسلام. ويضيف أن التجربة الحديثة أثبتت أن تحويل السياسة إلى دين بالنظر إلى الحزب الديني نظرة غير نقدية والتسليم بما يقوله بوصفه امتداداً للشريعة الإلهية مقارنة مع الأحزاب المقابلة فإن ذلك يقود إلى تكوين حلقات مغلقة متنابذة تمتنع فيها السياسة وتفسد فيها العقيدة الدينية.

 

ويرى غليون أن مسألة تحكيم الشرع تقف عند مجموعة مشاكل، فإما أن يكون التشريع في يد السلطة التشريعية المنتخبة، أو أن يكون في يد مجلس فتاوى دينية، وفي حالة مجلس الفتاوى يجب أن يكون هناك تنظيم لطريقة تكوين الإجماع الشرعي، والاتفاق بين المسلمين على منهج التفسير والتأويل، وتحديد العلاقة بين مجلس الفتوى والسلطة التنفيذية. وهو ما يعني بالضرورة مسألة سياسية خلافية، وتعيد الخيار إما إلى تعيين المجلس أو انتخابه.

 

ويعيدنا طرح غليون إلى ما ورد في الجزء الأول من نفي دعاة الدولة الإسلامية صفة الثيوقراطية عن أنفسهم وتقديم بعضهم لفكرة الدولة المدنية، وهو ما يعني فعلياً العودة إلى خيارات سياسية تفصيلية تتعلق بالتعيين والانتخاب وشكل العلاقة بين السلطات، أي بمعنى آخر يصبح النقاش خارج نطاق الدولة الدينية إذا تقبّل الدعاة فكرة اللجوء إلى الخيارات بعيداً عن قدسية الشريعة والنص، وأصبحت المسألة تتعلق بالسلطات وترتيب العلاقات بينها.

 

وإضافة إلى كل ذلك ونظراً لأن التجارب الإسلامية الحديثة تصلح إلى حد ما لاستخلاص النتائج كما أوردنا في الجزء الثاني، ونظراً لأن كلاً من السعودية وإيران والسودان خلال حكم الإسلاميين وطالبان وتنظيم الدولة الإسلامية تتعرض لانتقادات مستمرة من المنظمات الدولية في مجالات حقوق الإنسان والحريات العامة وحريات الصحافة والتعبير والوصول للإنترنت وحقوق المرأة والتضييق على الفنون والآداب، فإن من الممكن الاستنتاج أن الدولة الإسلامية المقترحة من قبل التيارات الإسلامية ستضيق على الحريات والحقوق في المجالات المذكورة ما دامت تتعارض مع الشريعة حسب مفهوم تيارات الإسلام السياسي.

 

 

4-الاستنتاجات

أ-الدولة الإسلامية المطروحة من قبل التيارات السياسية الإسلامية هي دولة ثيوقراطية تعتمد على قداسة النص الذي يحمل شرعية إلهية بدل قداسة أوامر الحاكم الذي يستمد شرعيته من الله في الثيوقراطية الكلاسيكية. ما تطرحه بعض التيارات الإسلامية مؤخراً من تبني الدولة المدنية والقبول بالديموقراطية يتعارض مع المفهوم المطروح للدولة الإسلامية لدى معظم تيارات الإسلام السياسي.

2-الدول والكيانات المعاصرة التي تصف نفسها بأنها تطبق الشريعة الإسلامية يمكن اعتبارها ممثلة إلى حد معقول للنموذج المقبول لدى غالبية تيارات الإسلام السياسي، ومن بين تلك الدول: السعودية، وإيران، وباكستان، والسودان، وطالبان، وتنظيم الدولة الإسلامية، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، وبوكو حرام.

3-ترى تقييمات أكاديمية متنوعة أن الدولة الدينية المعاصرة بشكل عام والإسلامية المعاصرة بشكل خاص تواجه تحديات كبيرة في العصر الحالي تتعلق بالسجلات السيئة في مجالات حقوق الإنسان والحريات المختلفة والإنتاج الفكري والفني والأدبي والتعددية السياسية وتداول السلطة، كما تواجه تحديات بسبب عدم وضوح الشكل المقبول للدولة الإسلامية، وغموض العلاقات بين السلطات المختلفة في الدولة، وبسبب استبداد الحكام أو الجهات الحاكمة، وعدم تحقيق العدالة بين المواطنين. وتشير التقييمات خصوصاً إلى تغييب المشاركة الشعبية في الحكم واستبدالها بمفهوم الحاكمية لله التي تأتي عبر أهل الحل والعقد.

 

تالياً رابط المقالين الأول والثاني، وهما يحملان العنوان نفسه:

*"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر (1/3)

* "الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر (2/3)

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد.