"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر (2)

"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر (2)
الرابط المختصر

)هذا المقال جزء ثاني من ورقة بحثية تحمل العنوان نفسه، وهي مكونة من ثلاثة أجزاء تنشر تباعاً في تكوين/ عمّان نت).

 

2- الدول الدينية المعاصرة، هل هي دولة دينية معيارية؟

إحدى المعضلات الدائمة في الوصول إلى تقييم لأطروحات استعادة الدولة الإسلامية هي في الاتفاق على مدى تمثيل الدول الإسلامية الحالية للمثال الذي تنادي به الحركات الإسلامية. وهكذا فإننا سنبدأ أولاً بتحديد الدول والهياكل المعاصرة التي يمكن اعتبارها نماذج ممثلة للدولة الدينية بشكل عام، وللدولة الإسلامية بشكل خاص، ثم نحاول تقدير مدى مشابهتها للدولة الإسلامية المثال التي تطرحها الحركات الإسلامية السياسية.\

 

بحسب أندرو ج. واسكي (Andrew J. Waskey, "The Political Theory of Theocracy", NATIONAL SOCIAL SCIENCE JOURNAL,2007 VOLUME   28 #1)  فإن الدول الثيوقراطية تأخذ في العصر الحالي شكل الحكم بالقانون الديني (Theonomy)  أكثر من صيغة الحكم الفردي المباشر في الصورة الكلاسيكية للثيوقراطية، مشيراً إلى عدد من الدول والكيانات التي تستمد قانونها من نصوص دينية، ومن بينها السعودية وباكستان وطالبان والفاتيكان وهيكلية دولة التبت في المنفى، إضافة إلى حركات دينية عديدة تسعى إلى تطبيق نصوصها المقدسة في قوانين الدولة، ومن بينها حزب بهاراتيا جاناتا الذي يسعى لتطبيق الديانة الهندوسية في الهند، والقوى الأصولية التي تسعى لتطبيق الشريعة في عدد من الدول الإسلامية، والحركات الدينية اليهودية التي تسعى إلى إقامة المعبد وتطبيق القانون اليهودي، وبعض الحركات المسيحية التي نشأت في عدد من الولايات الأمريكية التي تسعى لتطبيق قوانين معينة مستوحاة من خط كنسي معين، والتيارات البوذية في عدد من الدول، إضافة إلى قبائل منعزلة إلى حد كبير عن باقي العالم تتخذ من غابات أفريقيا وأمريكا الجنوبية مواطن لها.

 

وينبغي هنا التفريق بين الدولة الدينية المعاصرة القائمة على القانون المستمد من الدين من ناحية، والدول التي تعتمد ديناً رسمياً لأسباب تاريخية من ناحية أخرى. ومن الدول التي تعتمد ديناً رسمياً هناك على سبيل المثال النرويج والدنمارك اللتان تعتمدان الكنيسة اللوثرية ديناً للدولة، فالقوانين المطبقة في الدولتين مفصولة كلياً عن الدين، وتحصل الكنيسة على دعم مالي من الدولة، لكنها لا تمارس أنشطة سياسية. ومعظم الدول العربية تذكر في دساتيرها أن دين الدولة هو الإسلام، وتعتمد الأحكام الشرعية في قوانين الأحوال المدنية، لكنها لا تستمد تشريعاتها من الفقه الإسلامي التقليدي، ولهذا تعتبرها التيارات الإسلامية المعارضة دولاً غير ممثلة للدين.

 

يجدر الإشارة هنا إلى بعض الفروق في حالات الدول المرتبطة بالدين بطريقة أو بأخرى، فالحركة الصهيونية أنشأت دولة لليهود (إسرائيل) لكنها طبقت قانوناً علمانياً إلى حد كبير، وهو ما تحاول الحركات الدينية اليهودية تغييره. أما باكستان فقد أنشأتها حركة دينية إسلامية، لكنها طبقت قانوناً يشكل مزيجاً من القوانين الإسلامية والليبرالية يتراوح ما بين هذه وتلك حسب التجاذبات ما بين الجيش والحركات الإسلامية القوية في المجتمع. السعودية بدورها نشأت كدولة معتمدة على المذهب الوهابي، ويقابلها إيران التي كانت قائمة كدولة علمانية إلى حد كبير خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، لكنها تحولت إلى ثيوقراطية نتيجة ثورة عام 1979. وتصلح السعودية وإيران كنموذجين للدول الثيوقراطية في العصر الحالي رغم أن الهيكلية الدينية في إيران أوضح في تشكيلها وتراتبيتها وتظهر كمؤسسة.

 

وفي أدبيات الحركات الإسلامية المختلفة نجد أربعة نماذج يتم طرحها كصورة للدولة الإسلامية: النموذج الأول تمثله المملكة العربية السعودية ويناصره رجال الدين من التيار السلفي الوهابي ومن التيار السلفي التقليدي وبعض القوى السياسية خارج السعودية. ويشابه هذا النموذج إلى حد ما نظام الحكم السوداني.

 

النموذج الثاني تمثله الدول والهيكليات قصيرة العمر التي شكلتها التنظيمات السلفية الجهادية المختلفة في أفغانستان والصومال وبعض مناطق اليمن وفي الصحراء الكبرى، إضافة إلى الخلافة التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام تحت مسمى "الدولة الإسلامية". ويبدو هذا النموذج محاولة لتطبيق النموذج الثالث. ويتميز عن النموذج الأول بعدم إيمانه بالحدود الجغرافية والرغبة في التمدد خارجها.

 

النموذج الثالث هو النموذج الأكثر شيوعاً في أدبيات الحركات الإسلامية المعارضة، ويتمثل في استحضار الدولة التي أقامها النبي والخلفاء الأوائل واعتبارها هي النموذج الأمثل للحكم. ويمكن اعتباره شكلاً من أشكال اليوتوبيا، أي المثال الذي يسعى أنصاره لتطبيقه في الواقع. وتتنوع التيارات السياسية الإسلامية التي تحمل شعار دولة إسلامية مطلوب إقامتها، وقد تختلف في الشكل المقترح لها ما بين التيارات السلفية الجهادية وجماعة الإخوان وحزب التحرير وغيرها، كما تختلف على الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى تلك الدولة، ولكنها تتفق على المثال نفسه، وعلى الخطوط العامة ذاتها للفقه المكوّن للشريعة التي يطالبون بتحكيمها.

 

النموذج الرابع هو نظام الحكم في إيران، ويشكّل هيكلية متكاملة للدولة الثيوقراطية. ويرجع ذلك بحسب مهدي خلاجي ("Iran’s Regime of Religion"، Journal of International Affairs, Fall/Winter 2011, Vol. 65, No. 1، ص 131) إلى أن "الإكليروس" الشيعي لم يظهر فجأة مع الثورة الإيرانية عام 1979، ويعود إلى ما قبل خمسة قرون حين نشأت الدولة الصفوية، وجعلت المذهب الشيعي الإثني عشري ديانة رسمية لها، ما منح رجال الدين الشيعة نقطة تحول تاريخية، ومكنهم من التمتع بمميزات سياسية واقتصادية امتدت طيلة قرونٍ خمسة حتى في أثناء حكم الشاه بهلوي العلماني، وهذا لم يمنع من حدوث اختلافات وصدامات بين السلطة ورجال الدين في فترات معينة.

 

ويؤثر النموذج الإيراني بشكل كبير في معظم الحركات الشيعية السياسية في المنطقة، التي بدورها تعتبر إيران دولة نموذجية كدولة للمذهب الشيعي، وقد يكون لترسّخ الهيكلية بين رجال الدين الشيعة دور في ذلك. وبالتالي فإن عدداً محدوداً جداً من الحركات الشيعية يتحدى السلطة السياسية في إيران.

 

غير أن حركات الإسلام السياسي السنية لا تسعى لتقليد النموذج الإيراني رغم التحالفات التي عقدتها بعضها معها، مثل الجهاد الإسلامي وحماس والإخوان المسلمين في مراحل معينة. وتعتبر هذه الحركات نفسها الممثل الشرعي للإسلام في مواجهة النموذج السعودي من ناحية، وفي مواجهة أنظمة الحكم في بلدانها من ناحية ثانية. الصدام بين التيارات الإسلامية والدولة السعودية لم يصل إلى حد الصدام إلا نادراً، وعندما وصل إلى الصدام حسم أكثر من مرة لصالح الدولة. ويرى ستيفان لاكرو ("زمن الصحوة.. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية"، الطبعة الأولى 2010، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، السعودية، ص 37) أن النظام في السعودية يقوم على تقطيع المجتمع، أي توزيعه إلى قطاعات مرتبطة إلى حد ما بالمهنة أو بمجال النشاط، حيث يقول "تمت تجزئة الفضاء الاجتماعي إلى فئات اجتماعية مختلفة استحدثت من العدم عندما اقتضت الضرورة ذلك، وإحاطة كل منها بحيز اجتماعي منفصل يتمتع باستقلالية معينة ضمن إطار القواعد التي أرستها السلطات، وهي شائعة في النظم الفئوية"، وذلك استكمالاً لما يصفه بالاتفاق الأول في تقاسم السلطة والذي أوجد المجالين الديني والسياسي. وهكذا استطاع النظام السعودي –بحسب الكاتب- أن ينتصر على محاولات التيارات "الصحوية" الانتفاض على النظام، بالطبع بالإضافة إلى سياسات الأنفاق السخي التي تمارسها الحكومة مستفيدة من الوفر المالي الكبير. ويجدر التنبيه هنا إلى أن الكاتب يشير إلى التيارات الإسلامية التي تصف نفسها بالصحوية، وهي التيارات الإسلامية المعارضة.

 

وفي الناحية الأخرى، أي باقي الأنظمة، يقدم د. عبد النور بن عنتر ملاحظة لافتة حول الدول التي نشأت فيها أقوى التيارات الجهادية وأكثرها تشدداً وعنفاً، ويقول عنتر في مقاله "الإسلاميون والسلطة" والمنشور في موقع الجزيرة نت بتاريخ 3/10/2004 أن الدول العربية التي شهدت ظهور أقوى التيارات الجهادية كانت سوريا ومصر والجزائر وهي أكثر الدول العربية تمسكاً بالأيديولوجيا القومية، مرجعاً ذلك إلى القمع الذي مارسته تلك الأنظمة وإلى استغلال أنظمة محافظة من بينها السعودية لتلك التيارات الجهادية لمناكفة الأنظمة القومية المنافسة. ويضيف عنتر أن تيارات الإسلام السياسي عموماً رافضة للواقع والأنظمة، وترغب في استبدالها وتولي الحكم لتطبيق الشريعة، وذلك بسبب انتشار الفساد الحكومي، وشعور الأنظمة بالتهديد لأنها أصلاً وصلت للحكم بطريقة غير شرعية، والإحباطات الشعبية المتراكمة.

 

وفيما تجد تيارات الإسلام السياسي سهولة في مهاجمة شرعية معظم الأنظمة حيث تصفها بأنها "وضعية"، وغير صادرة عن الشريعة إلا أنها تجد معضلة في مهاجمة شرعية الحكم في دول مثل السعودية وباكستان والسودان. ولكن السلفية الجهادية تركز هجومها على السعودية وباكستان في زاوية "موالاة الكفار"، أي تحالف الدولتين مع أمريكا والغرب. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن هجمات تنظيم القاعدة وبعده تنظيم الدولة داخل السعودية اقتصرت على أهداف أمريكية أو غربية أو مساجد شيعية، ولم تستهدف الدولة السعودية بشكل مباشر إلا في حالات محددة.

 

وفي هذا الصدد يرصد الكاتب وليد عبد الناصر نظرة الحركات الإسلامية المصرية إلى السعودية خلال الفترة 1967-1981، ويقول في كتابه (The Islamic Movement in Egypt, The graduate institute of international studies, Geneva, 1994, 2-III) أن الحركات الإسلامية المصرية كانت ترى في السعودية في المجمل أقرب تمثيل للدولة الإسلامية، ويذكر أن الحركات الراديكالية كانت تنظر بعداء إلى السعودية بسبب ما وصفوه بتحالفها مع الصهيونية والغرب. ويشير إلى العلاقة الخاصة بين جماعة الإخوان المسلمين والسعودية منذ عهد حسن البنا، ويشير إلى امتداح العديد من قيادات الإخوان المسلمين للنموذج السياسي-الاقتصادي السعودي باعتباره أقرب النماذج إلى النموذج الإسلامي. بل ويلفت الكاتب الانتباه إلى أن ظهور النقاب في مصر كان عن طريق بعض الحركات الإسلامية التي كانت تقتدي بما هو موجود في السعودية. أما الجماعات الأخرى كتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية والسلفيين فكانت لهم علاقات مباشرة مع السعودية، وانحصرت انتقاداتهم لها في سماحها أو منعها لنشاط تلك الجماعات داخل السعودية.

 

وقد ظهرت مؤخراً العديد من المؤلفات والمقالات التي تنتقد العلاقة الفكرية بين المذهب الرسمي للدولة السعودية، الوهابية، والحركات الجهادية التي تتبنى العنف، ومن بينها القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. وفي هذا الصدد يقول باتريك كوكبيرن في مقدمة كتابه "داعش، عودة الجهاديين" أن الحرب على الإرهاب قد فشلت لأنها لم تركّز على السعودية وباكستان، وهما البلدان الذان دعما الجهادية كعقيدة وكحركة.

 

وهكذا وفي خلاصة الجزء الثاني يمكن القول دون تعسّف إن السياسة الداخلية السعودية تمثّل إلى حد ما النموذج الذي تقبله عموم التيارات الأصولية في الحركات الإسلامية السنية، كما تقبل نسبة كبيرة من تلك التيارات نماذج مثل طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية وبوكوحرام. أما التيارات التي لا تقبل هذا النموذج فهي تنظر إما إلى النموذج التركي أو إلى التونسي، وكلاهما لا يمكن وصفه بالدولة الدينية.

 

وفيما يتعلق بالتيارات الشيعية السياسية فمن السهل الاستنتاج أن النموذج الإيراني يعبر إلى حد كبير عن المثال الذي تسعى إليه.

 

** تالياً رابط المقال الأول الذي يحمل العنوان نفسه: "الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر

http://ar.ammannet.net/news/260337

 

 

علاء الفزّاع: كاتب أردني مقيم في السويد

أضف تعليقك