"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر

"الدولة الإسلامية" في مواجهة أسئلة العصر
الرابط المختصر

 

(هذا المقال جزء من ورقة بحثية تحمل العنوان نفسه، وهي مكونة من ثلاثة أجزاء ستنشر تباعاً في تكوين/ عمّان نت).

 

تشكل تيارات الإسلام السياسي المعاصرة بتلاوينها المختلفة قوة سياسية لها وزنها، من ناحية التأييد الشعبي، في معظم الدول العربية. وتلتقي تلك التيارات على فكرة "تطبيق الشريعة"، وإن اختلفت في المسميات. وفيما يعلن بعضها أنه يسعى إلى استعادة الخلافة، أو يمثلها فعلاً، فإن بعضها الآخر يصف نفسه بأنه لا يريد دولة دينية بل دولة مدنية بمرجعية إسلامية.

 

ونظراً إلى الأهمية البالغة، التي تشكلها هذه التيارات، وما تتركه مساعيها للوصول إلى السلطة من آثار، ولأن حروباً كبيرة وصدامات أهلية تدور حول هذه التيارات ومشاريعها فإن من المهم معرفة مدى واقعية هدفها المعلن، والإجابة على سؤال: هل يمكن للدول الدينية بشكل عام، والإسلامية بشكل خاص، أن توجد وتستمر في عصرنا الحالي؟

 

في السعي إلى الإجابة على هذا السؤال الرئيسي يمكن الوصول إلى ذلك عبر الإجابة عن ثلاث أسئلة فرعية أخرى، أولها هو هل تختلف الدولة الإسلامية التي تطرحها الحركات الإسلامية في أدبياتها عن المفهوم الكلاسيكي للدولة الدينية (الثيوقراطية)؟ وهل النماذج الموجودة حالياً من الدول الدينية تصلح للقياس واستخلاص النتائج بخصوص الفكرة عموماً، وبماذا تختلف عن الدولة الإسلامية في عصر النبي محمد والخلفاء الأوائل؟ وما هي التقييمات الأكاديمية الأكثر قبولاً بخصوص الدولة الدينية؟

 

هل الدولة الإسلامية المقترحة هي دولة ثيوقراطية؟

يحاجج عدد من دعاة الإسلام السياسي بأن الدولة الإسلامية المقترحة ليست دولة دينية، فيما يقول آخرون إنها دينية لكنها ليست ثيوقراطية حسب المفهوم الغربي للثيوقراطية. وفي هذا الصدد يرى يوسف القرضاوي فيما يكتبه تحت عنوان "دولة الإسلام دولة مدنية مرجعيتها الإسلام" (الدين والسياسة تأصيل ورد شبهات، 2007، الفصل الثالث من البند الثالث، موقع الدكتور يوسف القرضاوي) أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، ويقول: "فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية. ومعنى (مدنية الدولة): أنها تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة، وعلى وجوب الشورى بعد ذلك، ونزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة، أو مجلس شوراها، كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح له، ويشير عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. بل يعتبر الإسلام ذلك فرض كفاية على الأمة، وقد يصبح فرض عين على المسلم، إذا قدر عليه، وعجز غيره عنه، أو تقاعس عن أدائه".

 

غير أن أبو الأعلى المودودي في كتابه "حقوق أهل الذمة" والمنشور في آب 1948، في الصفحات 7-9، يقول إن الحكومة في الدولة الإسلامية لا يسير دفتها إلا من يؤمنون بمبادئ الدولة وهم المسلمون، ولا يجوز أن يتبوأ مناصب الحل والعقد غير المسلمين. ويضيف المودودي أن الدولة الإسلامية مضطرة لأن تميز بين المسلمين وغير المسلمين تمييزاً واضحاً. وفي موضع آخر من كتابه (ص 32-33) يشدد على أن غير المؤمنين بالإسلام لا يحق لهم التصويت لمجلس الشورى، وإن كان يحق لهم التصويت على المجالس البلدية لأن وظيفتها تتعلق بالضرورات المحلية وليس المسائل المتعلقة بنظام الحياة.

 

ويوضح سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق" والمنشور سنة 1964 نظرته للمسألة، حيث يقول في صفحة 58 إن "الأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة.. فليس لأحـد أن يقول لشرع لم يشرعه الله: هذا شرع الله، إلا أن تكون الحاكمية لله معلنة، وأن يكون مصدر السلطات هـو الله سبحانه لا "الشعب" ولا " الحزب" ولا أي من البشر، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة مـا يريده الله، ولا يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطانا باسم الله. كذلك الذي عرفته أوربا ذات يـوم باسـم "الثيوقراطية" أو "الحكم المقدس" فليس شيء من هذا في الإسلام. وما يملك أحـد أن ينطـق باسـم الله إلا رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإنما هناك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله".

 

ويعد المودودي وقطب من أبرز المرجعيات لتيارات الإسلام السياسي، كافةً، بما فيها السلفية الجهادية، وجماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في باكستان. وقد انعكست كتاباتهما في مجمل أدبيات الحركات الإسلامية المختلفة، مع استثناءات لبعض التيارات والحركات ذات التأثير القليل نسبياً والتي تتفاوت قرباً وبعداً عن إرث المودودي وقطب، كالسلفية العلمية (الإصلاحية) والتقليدية، وحزب التحرير، والحركات ذات المرجعية الصوفية. ورغم أن الحركات الإسلامية المختلفة طوّرت لاحقاً أدبيات خاصة بها وظهر فيها مفكرون ومنظرون آخرون إلا أن الخط العام بقي ضمن الضفاف التي وضعها المودودي وقطب، باستثناءات محدودة من بينها أعمال راشد الغنوشي وحسن الترابي اللذين قدما مفاهيم خرجت عن حدود تلك الضفاف.

 

ويقدم مجمل طرح هذين المفكرين؛ المودودي وقطب، رؤية واضحة لدولة تستمد شرعيتها من الدين الإسلامي، ومن لا يؤمن بها فهو كافر يجب استتابته ثم قتله، أو مواطن منقوص المواطنة لا يحق له سوى امتلاك جزء من الحقوق التي يمتلكها المواطن المسلم، وبالذات في المجال السياسي. وهو تصور وإن قدم نفسه على أنه غير ثيوقراطي إلا أنه يحمل معه كل المكونات الجوهرية للثيوقراطية، وبالذات مصدر مشروعية نظام الحكم (الحاكمية لله)، وهو مصدر غير قابل للمناقشة أو الاعتراض، إضافة إلى مبدأ الحرمان من الحقوق المدنية أو الحبس أو القتل في حال مخالفة السلطة التي تستمد شرعيتها من الدين وهو ما يرتبط بدرجة معينة بمفهوم الولاء والبراء. وبدلاً من الكهنوت والمؤسسة الدينية في الدولة الثيوقراطية المسيحية هناك "أهل الحل والعقد" كما هو متعارف عليه في أدبيات دعاة الدولة الإسلامية. وفي بعض الحالات توجد بالفعل مؤسسات ذات طابع ديني تمارس صلاحيات تنفيذية وتشريعية في الدولة، مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، وهيئة تشخيص مصلحة النظام في إيران، و"الحسبة" في تنظيم الدولة الإسلامية.

 

قدم فرع جماعة الإخوان المسلمين في الأردن رؤيته للإصلاح في عام 2005 (أنظر "رؤية الحركة الإسلامية للإصلاح"، 2005، والمنشور على موقع جماعة الإخوان المسلمين في الأردن)، وهي رؤية تشابه إلى حد كبير تلك التي نشرتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عام 2004، وتلتقيان على الإعلان الصريح عن الشعب مصدر السلطات، وعن إيمانهما بالتداول السلمي للسلطة، وهو ما لا يتوافق مع الرؤية التقليدية المطروحة من قبل مفكري التيارات الإسلامية السياسية، ويحاول أن يقدم نفسه بشكل مختلف عن المفهوم التقليدي للدولة الثيوقراطية.

 

يبقى هذا الطرح من قبل الجماعة في الأردن ملتبساً كونه يكرر في مواضع عدة أن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين والتشريعات، كما يكرر اعتماد القيم والمبادئ الإسلامية مقصداً يتم تعزيزه في وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية وفي مجالات الدولة المختلفة، وهو ما يمكن فهمه بوصفه شكلاً من أشكال الدولة الشمولية، ويعزز ذلك الفهم عبارات ترد في أدبيات الحركات الإسلامية من نوع: الإسلام شامل لكل مجالات الحياة، والإسلام دين ودنيا.

 

وتشير رؤية الحركة الإسلامية للإصلاح في موضع آخر إلى "ضمان حرية الاعتقاد وإقامة الشعائر الدينية لجميع المواطنين، وكفالة حرية الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبارها من أهم ضمانات حماية المجتمع من عوامل الانحراف والفساد"، وهو ما يطرح تساؤلين مشروعين: ما هو الموقف ممن يمارس حرية الاعتقاد ويتحول من الإسلام إلى دين آخر؟ وما هي صيغة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهل يمكن أن تصل إلى ما يشابه هيئة الأمر بالمعروف في السعودية؟

 

وبعيداً عن النصوص فإن الممارسات السياسية للحركات الإسلامية بما فيها الإخوان المسلمين تتميز باتهام معارضيهم بأنهم يخالفون الشرع ويعادون الإسلام، وهي تهم متكررة في النشاطات الميدانية والمناقشات وعبر وسائل إعلام تلك الجماعات. ويكرر عدد من منتقدي حركات الإسلام السياسي أنها إقصائية وتعمل على احتكار تمثيل الإسلام، فيما تنفي تلك الحركات ذلك لكنها تشدد على أن منافسيها العلمانيين واليساريين والقوميين خارجون عن تعاليم الإسلام.

 

وتشير انتقادات إلى أن جزءاً كبيراً من جماعات الإسلام السياسي، وبالذات السلفية الجهادية، لا يخفي رفضه للديمقراطية وإصراراه على الحكم بالشريعة تطبيقاً لأمر الله، فيما جماعات أخرى مثل الإخوان المسلمين تحمل خطاباً متعدد الأوجه، بعضه موجه للغرب وهو الأكثر مدنية، وبعضه موجه للرأي العام المحلي ويزاوج بين الصبغة الدينية والمدنية، وأخير داخلي يتحدث عن دولة دينية. ويرصد ديفيد بولوك ("جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وسجلها في ازدواجية الخطاب"، معهد واشنطن، 26 كانون الثاني 2012) مواقف مزدوجة بخصوص قضايا مختلفة من بينها الديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك بين النسختين العربية والإنجليزية لموقع الجماعة، ويشير إلى إبراز النسخة الإنجليزية لمقالات وأخبار عديدة تظهر اهتمام الجماعة بالأقباط وبالمرأة وحقوق الإنسان وتركيزها على الديمقراطية، فيما لا تحوي النسخة العربية مثل ذلك، بل إن خطاب المرشد الأعلى للجماعة محمد بديع إلى الشعب المصري بعد الإطاحة بالرئيس المصري السابق حسني مبارك تم نشر نسخة منه بالإنجليزية على موقع الإخوان "يُفترض أنه تحدث بصفة أساسية عن الديمقراطية والتسامح والتعددية والتعايش بين المسلمين والأقباط في مصر. لكن نص تصريحه الذي نُشر بشكل متزامن باللغة العربية كان يحمل نغمة مختلفة تماماً. ففي رسالته الأصلية، كتب بديع بإسهاب كيف أن انتفاضة مصر كانت بركة من الله - ومدى حاجة المصريين إلى الثبات على عقيدتهم الإسلامية لجني ثمارها الحقيقية"، كما رصد بولوك.

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد