الدولار ليس مستودعا مستقرا للأسعار
اجمع المراقبون حول وجود خلل في النظام النقدي العالمي, وتزايدت الجهات الدولية "منظمات وحكومات وخبراء" المطالبة بإعادة النظر بالدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمي فلم يعد يتمتع الدولار بالمزايا التي حصل عليها خلال العقود الماضية, بعد تربعه على عرش "الوحدة النقدية العالمية" أكثر من ستة عقود, بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, وموافقة الدول المعنية بالمحافظة على سعر صرف عملاتها مقابل الدولار, بعد ان ربطت اتفاقية بروتون وودز 1945-,1971 الدولار بالذهب واعتبر الدولار عملة احتياط عالمية, وقد منحت التعديلات التي طرأت على نظام بروتون وودز تسهيلات إضافية للعملة الأمريكية بفك ارتباطه بالذهب وأصبح يتمتع بحرية مطلقة مكنت بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي من طباعة الأوراق النقدية الأمريكية الدولار من دون ضوابط, واغرق العالم بمليارات الدولارات التي لا تساوي تكلفتها على الخزينة الأميركية أكثر من ثمن طباعتها.
ليست المرة الأولى التي تصدر هيئة دولية تابعة للأمم المتحدة توصيات بإنشاء نظام عالمي جديد, للاحتفاظ باحتياطات العالم من العملات بديلا عن الدولار, فقد سبق وقدم اقتراح كهذا من لجنة مكلفة من الأمم المتحدة بإبداء رأيها حول الموضوع, فلم يعد الدولار عملة صالحة لحماية القيمة, هذا ما أشار إليه تقرير صادر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي, وأضاف التقرير بعد دراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العالمية لعام 2010 "ثبت أن الدولار ليس مستودعا مستقرا للقيمة", وهي مسألة تعد شرطا أساسيا لعملة الاحتياط.
ان انفجار الأزمة المالية في الولايات المتحدة الامريكية في ايلول عام 2008 وما تبعها من أزمة في الاقتصاد الحقيقي الأمريكي وإفلاس مئات الشركات المالية والعقارية والصناعية العملاقة, شكل ضغوطا متزايدة على الدولار وكشف عن عجزه وبات من الضروري عدم الاحتفاظ به كاحتياط للعملات, وقد سبق وقدمت انتقادات للسياسة النقدية السائدة باستخدام الدولار كعملة احتياط عالمية من قبل دول وازنة في العالم من أبرزها الصين وروسيا وألمانيا وغيرها من الدول, حيث وفر النظام الحالي مزايا ومكاسب للولايات المتحدة الأمريكية بإصدار الدولار بلا ضوابط وكأن بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي مؤسسة نقدية عالمية تقوم نيابة عن دول العالم بهذه المهمة, من دون مراعاة مصالح الأطراف الأخرى والاقتصاد العالمي, مكنتها هذه السياسة من شراء سلع ومواد أولية من مختلف دول العالم بلا مقابل.
ان الإفراط بطباعة الأوراق النقدية اضر في الاقتصاد العالمي, وأسهم بشكل كبير بعدم احتواء الأزمة المالية والاقتصادية لغاية الان, كما أسهم بارتفاع تكلفة الأزمة على الاقتصاد العالمي, فقد أوضح التقرير الضرر الذي لحق بالدول النامية من تراجع قيمة الدولار في السنوات الأخيرة, حيث احتفظ العديد منها بكميات هائلة من الدولار كاحتياطات إستراتيجية خلال السنوات الماضية. وان كان يفترض ان الولايات المتحدة مدينة للدول التي تحتفظ باحتياط من الدولار بأرقام فلكية, الا ان الاقتصاد الأمريكي في وضع لا يسمح له بسدادها, فان ذلك يعزز الميل العام لدى الأطراف الأخرى نحو معالجة سلمية للازمة بعيدا عن محاولات دفع الاقتصاد الأمريكي نحو مفاقمة الأزمة, تمشيا مع شروط وقوانين العولمة الرأسمالية, كون مجموع هذه الدول تسير في مركب واحد, لذلك استحدث ما يسمى بمؤتمر العشرين, ومن هنا تسعى الدول الصناعية لإحداث تغيير في النظام النقدي العالمي بطرق ودية, وبعيدا عن سياسة كسر العظم لان في ذلك مخاطر ليس فقط على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بل أيضا على الاقتصاد العالمي خاصة الدول التي تحتفط بمخزون هائل من الدولار مثل الصين على سبيل المثال.
ان فكرة إصدار نظام نقدي بديل عن الدولار ليس جديدة فهي مطروحة تاريخيا, وقد سبق وعالجت النظرية الكنزية هذه المسألة مقترحة تخويل مؤسسة دولية بإصدار عملة عالمية ليس للتداول بين المواطنين بل على شكل ائتمان, تصدر المؤسسة الدولية ائتمانا يقبل التعامل به, وقد كان إنشاء ما عرف بحقوق السحب الخاصة في نهاية ستينيات القرن الماضي خطوة في هذا الاتجاه إلا إنها لم تتطور لتأخذ دورها المشار إليه. بسبب الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي, مستغلة نفوذها في المنظمات الدولية المنبثقة عن الامم المتحدة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية, في الحفاظ على شروط استغلالها للعالم بمعايير الماضي, التي كانت سائدة في ظل الحرب الباردة, بحجة دورها المميز في حماية النظام الاقتصادي الحر من خطر التمدد الشيوعي. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي عززت امريكا سيطرتها وهيمنتها على العالم, في ظل النظام العالمي الجديد احادي القطبية, وفي ظل هيمنة المحافظين الجدد والليبرالية الجديدة التي اوصلت العالم الى اسوء ازمة اقتصادية في التاريخ الحديث. هذه الازمة فضحت الاستغلال الامريكي للاقتصاد العالمي, وعلى وجه الخصوص في البلدان النامية وشعوبها المقهورة.