الحكومات ومأزق النظرية الادعائية

الحكومات ومأزق النظرية الادعائية
الرابط المختصر

عبر عشرين سنة او ثلاثين سنة ستختلق الحكومات الاردنية لنفسها بنفسها نظرية  في الادارة والحكم والاتصال لا وصف لها في القاموس ادق من الادعائية، نظرية ادعائية سيجري تسويقها بشكل واسع وباساليب احتفالية خصوصا في الداخل واحيانا في الخارج، وبقوة الزمن المتطاول ستكرس هذه النظرية نفسها في الواقع بشكل سيجعل من الصعب نقدها او تعريضها للفحص والاستكشاف، حتى باتت جزءا اساسيا من عقل دوغمائي جماعي مضاد للتصحيح او المراجعة، وفي ظل استسلام جماعي لهذه النظرية الادعائية المسيطرة التي تقوم على ادعاء الفعل بدلا من الفعل، سيتم الافراط والمبالغة في استعمالها في كل مستويات الحكم وساحات العمل العام وسيمتد تأثيرها عبر مستويات الحياة غير الرسمية وحتى على مستوى الحياة الخاصة للافراد.

ومن خلال التكريس الشامل لهذه النظرية والتواطىء الجماعي في فهمها والتماهي معها والاستجابة لها والاضافة عليها ستتهدم البنية الفكرية الاساسية للمجتمع الضعيفة اصلا، وستتهاوى اساسيات الفكر السائد سابقا في المجتمع ومستوياته الحاكمة، وستنتشر عمليات جماعية وواسعة للتخلي عن الذات الاصلية ومنظومتها القيمية السليمة  فيما يشبه التفريغ العام  او التشتت العام نحو اللااتجاه  يرافقه لهاث شامل لتحقيق هدف غير محدد بوضوح، وستنفتح كل الابواب امام عمليات متسارعة للاستبدال والتجاهل والتعامي والتكاذب والايهام والتمويه،وسيتباهى الجهل بحلته الجديدة المدعية للحكمة والمعرفة الحديثة، وسيصبح من الممكن بدون اية كلفة تسويق واستهلاك كل البدائل الناقصة والاغذية الفاسدة والاغاني الفارغة والخطط الفاشلة والبرامج الاستعراضية  والقرارت غير الجدية والكلام الخالي من الحرارة والوجبات الباردة جدا.

 وازاء ضعف مزمن في البنية المدنية للمجتمع وهشاشتها اصلا ستشهد البوادي والارياف والمدن مظاهر واسعة للانفراط العمومي والتفرق والتجزء والانقسام والارتداد واللهاث المحموم نحواللا اتجاه،وستبلغ الامور حدودا قصوى من اللا معقولية في القرارات واشكالا متيبسة وعدائية في السلوك وانماطا بدائية ومتوترة للعلاقات بين الناس انفسهم وبين الناس والسلطات و ستصاب حركة المجتمع العامة في صميمها،وسنسمي كل هذا الانفراط العمومي الشامل العنف المجتمعي في محاولة للتقليل من خطورته.

 و سنة بعد سنة وحكومة بعد حكومة سيكون ممكنا وفق النظرية الادعائية السائدة تسخيف كل ما هو جدي واصيل و معتبر، وتبرير كل  الانحرافات والتشوهات و العيوب او التقليل من اهميتها وانكارها اذا لزم الامر، وسندعي فيما سندعي اننا نحارب الفساد وسنظل عبر السنين الطويلة  نبحث عن الادلة على وجود هذا الفساد فيما نحن نراه جميعا بعيوننا كما نرى الشمس ، حالنا في ذلك كحال من يقص الاثر وهو يرى اللص ، وسيجري كل هذا عبر آليات واساليب تدين نفسها بنفسها،لكننا سندعي جميعا انها سليمة ، وسيظهر لدينا نوع محلي مضحك من الباطنية السياسية والاجتماعية  في بيئة لا سابق عهد لها مع الباطنية ولا الازدواجية ولا الاجندات الخفية، بيئة غير صالحة لاستزراع نبت من غير جنسها ولا استنساخ مخلوقات مائية، حيث ستجد النظرية الادعائية نفسها بعد قليل في مأزق مع قوانين الفيزياء والكيمياء والريلضيات التي لا قبل لها بها.

وبمرور الوقت المتسارع سيتعود الناس هذا التواطىء الجماعي طمعا في معظم الاحيان  او خوفا احيانا  وسيتسابق كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين مندفعين ومتدافعين للانخراط في هذا العرس الوطني الادعائي الشامل الذي سينتج لنفسه بنفسه ادبياته وطقوسه واغانيه واساطيره  التي ستقدم للمراقب اقوى دليل لادانته وتفكيك بنيته وكشف اكاذيبه، ولن يحتاج المرء للبحث بعيدا فصفحات النعي والتهنئة تمتلىء كل يوم بنوع فاضح من الادعائية ومدح الذات وكذلك المقالات وتصريحات المسؤولين والمحاضرات  ونشرات الاخبار ، فيما السماء فوقنا  تمتلىء بالالعاب النارية التي تحدث رعودا وبروقا اصطناعية تماشيا مع فن الابهار الادعائي الاصطناعي او تماشيا مع الاغنية المحلية الرائجة تبرق وترعد ، اصوات مدوية والوان باهرة وصور مكبرة واندفاع عام يستنزف كل شيء لاستخلاق الواقع الادعائي المرغوب به وتصديق وجوده،  بدلا من خلقه فعليا في العالم الحقيقي والعيش فيه،وهنا لن يكون منطقيا ان تحاول قياس المسافة بين العلني والسري او بين العنوان والمضمون اوبين التصريح والتلميح اوبين النظرية والتطبيق، فالكل يعلم ان ما هو مكتوب في الدستور او ماهو مكتوب على الجدار او ماهو مقروء في الاعلان، كلها اشياء  ستتحول تدريجيا الى لوازم دعائية لاغراض تكريس الصورة الادعائية المشتهاة وليس من الضروري ان تكون لهذه اللوازم اية صلة بالواقع.

 وفي هذا السياق سنشهد خلال السنوات الاخيرة افراطا ملفتا في اظهار علامات  الولاء والانتماء من غير ان نلاحظ اثرا فعليا لها في الواقع ، وضمن نفس السياق سيكون من غير المستغرب ان تزدحم كل مساجد المملكة والشوارع المحيطة بها بالمصلين يوم الجمعة من دون ان نرى اي انعكاس او تأثير لهذا الورع الاسبوعي في سلوك الناس وتعاملاتهم حتى في يوم الجمعة نفسه، وما عليك ان رغبت بمزيد من الامثلة  الا ان تنظر في  هذه المعلقات الاردنية المستحدثة على جدران مداخل مؤسسات الحكومة التي تشرح للداخل اليها عن رسالتها ورؤيتها واهدافها وحرصها الشديد على الاستجابة والخدمة ، ولك ان تتأكد من مدى جدية هذه المعلقات الجميلة بمجرد ان تلقي بالتحية على موظف الاستعلامات في المؤسسة  منتظرا تحية مثلها او احسن منها، وكلما دخلت في المؤسسة اكثرفانك ستتأكد اكثر، حتى لو كانت المعاملة التي تريد الانتهاء منها دفع ضريبة للحكومة.

نهج ادعائي عام وشامل وشبه متعمد وشبه ممنهج سيسود على المستويين الرسمي والشعبي وسيتغلغل في كل مساحات الحياة وخلايا المجتمع وسنجده حاضرا بقوة حتى في منابر المعارضة والصحافة وفي الجامعات ومراكز العلم وسيشد انتباهنا ظهوره الاكثرايلاما عند المتخرجين من جامعات اجنبية مرموقة  الذين سيقدمون لنا دليلا قاسيا على ضحالة الوضع المدني في هذا المجتمع  ، نهج ادعائي سيتكرس عبر السنين وسيفرض سطوته وسلطته في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نهج يخلو في داخله من اي محتوى حقيقي ويستعيض عنه بسخافات العلاقات العامه الباهتة وفنون الاتصال الخداعية  المرتكزة على اختلاق ما نريد تحقيقه دون ان نخلقه او نحققه بالفعل، وسنتشارك جميعا من شتى المنابت والاصول في تكريس هذا النهج وتعميمه عبر كل وسائل الاعلام والاتصال ومفردات الخطاب الرسمي وفنون التزلف والرياء والمجاملة والتكاذب حتى صارت الادعائية في هذا البلد نظرية سائدة ومتمركزة ومهيمنة على كل شيىء تقريبا.

نهج ادعائي ولد ونما وتعمم وسمح لكل من يشاء ان يدعي ما يشاء، ولم يعد يحتاج اي طامح للارتقاء في سلم الحكومة والمجتمع الا الى التمرن قليلا على فن الادعاء او الكذب، وعبرهذا الباب المفتوح واسعا  لمن هو اشطراو اسرع او اخف وزنا، سيظهر لدينا قادة ادعائيون وكفاءات استثنائية كاذبة واثرياء غير شرعيين واباطرة فساد ووجهاء وشيوخ بعباءات فضفاضة،لكن هذا الباب على اتساعه لن يسمح  ابدا بظهور ممثلين حقيقيين ولا شعراء حقيقيين ولا زعماء حقيقيين ولا مثقفين حقيقيين، فالادعائية بطبيعتها نقيض لكل ما هو جدي وحقيقي وجوهري وممتلىء، لا بل ان البحث يجري احيانا بصورة علنية ومتعمدة عن مسؤليين حكوميين من النوع المعاكس تماما على هيئة شبان متسرعين ومتأنقين ومفرغين ومجوفين ومحلقين رؤوسهم و قابلين للانحناء في جميع الاتجاهات، وسنسميهم وفق نظريتنا الادعائية شباب فهمانين وحركيين وحداثيين ومرنين واحيانا عباقرة او كفاءات استثنائية، و قد نشكر الله لانه جاد علينا بهم  للارتفاع بنا الى مدارج الرقي الادعائي  والتقدم الوهمي والفساد الحقيقي والنهب شبه العلني .

تحولات شاملة في فكر المجتمع وثقافته ومستوياته الفوقية والتحتية والوسطى ستكرسها سنين وسنين من الانفلات والضياع والادعاء والوهم والتناسي والجهل والتجاهل  والصمت المشكوك بحسن نيته والتغييب الكلي لكل انواع الاتصال الصاعد ولكل انواع المساءلة والمحاسبة ، واستحضار مشكوك بأمره لكل ما هو مناقض لكل ما هو نظيف وصحيح وسليم وصادق وجدي ومفيد ونافع وعقلاني ومنطقي وبسيط، وانخراط شبه تآمري في تبرير كل هذه النقائض وتسويقها وتثبيتها لا بل والدفاع عنها، وعزل خبيث ممنهج  للصوت الحقيقي الاصيل والاستعلاء عليه واحتقاره وطمسه وتهميشه وتسخيفه، واتهامه على الاقل بعدم فهم المعادلة الادعائية السائدة مما يستدعي طرده بسبب عدم الحاجة اليه، وهكذا سننتقي ما نريد وسنتذكر ما نريد وسننسى كما نريد  وسنقدم من نريد وسنؤخر من نريد وسنعطي من نشاء وسنأخذ ممن نشاء، بدون اي التزام بأية قياسات او اية معايير وبدون اية رقابة ومن غير اي حساب وعبر تجاهل مشتبه به لكل القواعد الصحيحة للحكم والحياة.

غير اننا سننسى  فيما سننسى ان للحياة  قانونها الكوني السرمدي الذي يمكن ان  يسمح للظاهرة ان تظهر وتتضخم وتستمر، لكنه في لحظة ما لا يمكن التنبؤ بها بشريا على وجه الدقة،سيعرض هذه الظاهرة للفحص والاختبار وفي هذه اللحظة الحرجة  لا يمكن ان  تصمد  فقاعة ولا يمكن ان يستقر زبد ولا يمكن ان يبقى وهم ولا مجال لاستمرار الادعاء والكذب، فوجه الحقيقة حين تسطع يكون شديد الحرارة كعين الشمس حين ينسحب الثلج من امامها ويظهر بوضوح تام  ما هو تحته.

هل وصلنا الى هذه النقطة ، الله اعلم ، لكننا نعتقد  ان هناك من يريد في المستويات الاعلى من الحكم ان نصل الي هذه النقطة قبل الموعد التلقائي او ان نستبق وصولها الينا، وهذا شيء مفرح بالطبع، لكن هذه الرؤية الاستباقية الحكيمة تحتاج كشرط  ضروري للنجاح  ان نستعمل ادوات غير نمطية لا تنتسب للمعسكر الادعائي بكل اجنحته الليبرالية والمحافظة، فكل هذه الادوات البادحة سواء كانت من خريجي الغرب او الشرق او من الحرس الجديد او الحرس القديم كلها تورطت بشكل مباشر او غير مباشر في صناعة الفشل ، وليس امامنا الان الا ان نقوم بالفعل المطلوب فعلا  لا ان ندعي فعله،فالنظرية الادعائية الان في مأزق حقيقي..

*كاتب وباحث في التنمية الاجتماعية/الأردن

أضف تعليقك