الحصانة البرلمانية في ضوء قرار المحكمة الدستورية

الحصانة البرلمانية في ضوء قرار المحكمة الدستورية
الرابط المختصر

\كما كان متوقعا فقد حسمت المحكمة الدستورية ومن خلال الصلاحية المناطة بها في تفسير نصوص الدستور الأردني الجدل القائم حول نطاق الحصانة البرلمانية التي قررها المشرع الدستوري في المادة (86) من الدستور لكل من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب والتي تحول دون توقيفهم أو محاكمتهم خلال مدة اجتماع المجلس ما لم يصدر قرار برفع الحصانة بالأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس الذي ينتمي إليه العضو المطلوب توقيفه أو محاكمته. وفي قرارها التفسيري، فقد وسعت المحكمة الدستورية من نطاق الحصانة البرلمانية لتشمل الأفعال الجرمية كلها التي يرتكبها عضو المجلس قبل اكتسابه صفة العضوية أو بعد اكتسابه إياها، ما حدا برئيس المجلس القضائي أن يصدر تعميما للجهات القضائية كافة بوقف الملاحقات الجزائية ضد النواب الحاليين سواءً ما كان منها في أدوار الملاحقة أو التحقيق أو المحاكمة، والطلب رسميا من المجلس القضائي مخاطبة الجهات المعنية لرفع الحصانة عن أولئك النواب المتهمين وذلك وفقا للأصول الدستورية.

ورغم عدم الإشارة إلى ذلك صراحة في القرار التفسيري، إلا أنه لا مفر من التوسع أكثر في نطاق الحصانة البرلمانية لتشمل أنواع الجرائم كافة التي يرتكبها العضو أثناء انعقاد المجلس بغض النظر عن طبيعتها ومدى تعلقها بالعمل البرلماني. فما يمكن استنتاجه من قرار المحكمة الدستورية الأخير أن جميع الأفعال الجرمية التي يرتكبها عضو مجلس الأمة أثناء انعقاد المجلس تكون مشمولة بأحكام الحصانة البرلمانية بحيث لا يمكن أن تتم محاسبته عنها إلا بعد رفع الحصانة عنه بغض النظر عن طبيعة الجرم وتعلقه بالعمل البرلماني.

إن ما يدور حاليا من نقاشات واختلافات في وجهات النظر بين صفوف رجال القانون والسياسة في الأردن حول نطاق الحصانة البرلمانية يترافق مع أحداث مشابهة تتعلق بالحصانة البرلمانية وتطبيقاتها في بريطانيا التي هي مهد الحياة الدستورية والبرلمانية، ودائما ما ينظر إليها دعاة الإصلاح والتغيير في الأردن بعين جلية يحاولون الاقتباس منها والتمثل بها خصوصا فيما يتعلق بأركان النظام النيابي. فقد شاءت الظروف أنه في الوقت الذي شهد به مجلس النواب الأردني عراكا وصداما بين أعضائه تطور إلى حد التلويح والتهديد باستخدام السلاح من قبل أحد النواب الذي فلت من العقاب بحكم الحصانة البرلمانية، قامت الشرطة البريطانية وبالفترة الزمنية نفسها باعتقال النائب العمالي إيريك جويس بتهمة التسبب في مشاجرة في البرلمان البريطاني والاعتداء بالضرب على نواب آخرين، حيث تم توقيف النائب تحفظا لبضع ساعات قبل أن يتم الإفراج عنه بكفالة. ولم يجرؤ النائب جويس أو أي من السياسيين البريطانيين أن يدفع بتمتعه بالحصانة النيابية لعدم توقيفه عن الجرم الذي ارتكبه في البرلمان البريطاني.

وقد تزامن إصدار المحكمة الدستورية لقرارها التفسيري الأخير بشمول الحصانة البرلمانية الأفعال كافة التي يرتكبها عضو مجلس الأمة سواء قبل العضوية أو بعدها بحادثة أخرى ذات صلة بالحصانة البرلمانية في بريطانيا. فقد أوقفت السلطات البريطانية قبل أيام النائب نايجل إيفانز من حزب المحافظين، وهو أحد الثلاثة نواب لرئيس مجلس العموم البريطاني، للاشتباه بارتكابه جرائم جنسية عام 2009 في الفترة التي لم يكن بها عضوا في مجلس العموم، حيث تقرر البدء في محاكمته في شهر حزيران المقبل، ولم يقبل منه الدفع بالحصانة البرلمانية للتهرب من الملاحقة القانونية، أو حتى تأجيلها لحين انتهاء الدورة البرلمانية المنعقدة حاليا.

كما تزامن القرار التفسيري الأخير للمحكمة الدستورية مع الأنباء التي تواترت في إحدى التقارير الصحافية أن عدد النواب الحاليين المطلوبين للقضاء بتهم وجرائم مختلفة ارتكبوها قبل العضوية في مجلس النواب (80) نائبا، فجاء قرار المحكمة الدستورية كطوق نجاة لهم حيث ستتأخر محاكمتهم إلى حين انتهاء الدورة البرلمانية الحالية، على أن توقف وتنقطع من جديد مع بداية الدورة البرلمانية التالية.

أما وقد صدر قرار المحكمة الدستورية لصالح التوسع في نطاق تطبيق الحصانة البرلمانية، فإننا لا نملك إلا ان نحترمه وننصاع إليه بموجب أحكام الدستور الذي يعتبر قرار المحكمة الدستورية حجة في مواجهة الكافة والسلطات في الدولة، وأن أي قرار تفسيري يصدر عنها يجب أن يقرأ كوحدة واحدة مع النص الدستوري الذي تم تفسيره، فيلحق القرار التفسيري بالنص الدستوري.

لذا، وعلى ضوء القرار الأخير، فإنه يجب التركيز على أحكام رفع الحصانة البرلمانية في النظام الدستوري الأردني وإجراءاتها التي وردت على سبيل الحصر في النظام الداخلي لمجلس النواب ابتداء من المادة (136) منه والتي تنص على أن يقدم رئيس الوزراء طلب الإذن باتخاذ الإجراءات الجزائية إلى رئيس مجلس النواب مشفوعا بمذكرة تشتمل على نوع الجرم ومكانه وزمانه والأدلة التي تستلزم اتخاذ إجراءات عاجلة، حيث يحيل رئيس المجلس الطلب إلى اللجنة القانونية لفحصه والنظر فيه وتقديم تقرير عنه خلال مدة لا تتجاوز أسبوعين. ومن ثم يحيل رئيس المجلس تقرير اللجنة القانونية على المجلس في أول جلسة تالية لمناقشة الموضوع واتخاذ القرار المناسب. فإذا وجد المجلس سببا كافيا لاتخاذ الإجراءات القضائية المطلوبة فإنه يصدر قراره برفع الحصانة عن النائب المعني بالأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس شريطة أن يكون قرار رفع الحصانة محصورا فقط بالفعل الوارد في طلب الإذن، وأن لا يمتد ليسري على أفعال جرمية أخرى.

إلا أن المشكلة الأساسية التي تواجه إجراءات رفع الحصانة تظهر في المادة (139) من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تحظر على المجلس أن يفصل في موضوع التهمة، وأن يقتصر دوره فقط على الإذن باتخاذ الإجراءات القانونية أو الاستمرار فيها متى تبين له أن الغرض منها ليس التأثير على النائب لتعطيل عمله النيابي.

إن هذا المعيار الذي تبناه النظام الداخلي من عدم منح الإذن باتخاذ الإجراءات القانونية أو الاستمرار فيها إذا كان سيترتب عليها تعطيل النائب عن عمله النيابي هو معيار واسع وفضفاض سيؤدي بالنتيجة إلى التصويت على عدم منح الإذن بمحاكمة النائب. فأية مباشرة للإجراءات القانونية بحق النائب أو الاستمرار فيها سينطوي حتما على تعطيل للنائب يتمثل في صعوبة حضوره جلسات المجلس أو تأخره عنها للمثول أمام المحاكم الجزائية على اختلاف درجاتها ومتابعة الإجراءات القضائية فيها. فإذا ما اعتبرنا أن أي إجراءات قانونية يعيق النائب ويعطله عن عمله النيابي سيدفع بمجلس النواب للتصويت على عدم منح الإذن بمحاكمته، فإن أحكام رفع الحصانة عن النائب تعد شكلية لا قيمة أو تطبيق لها على أرض الواقع. وما يدعم وجهة النظر هذه ندرة الحالات التي صوت فيها مجلس النواب على رفع الحصانة والإذن بمحاكمة أحد أعضائه خلال المجالس النيابية السابقة.

إن معيار رفع الحصانة عن النائب من عدمه قد حدده المشرع الأردني في المادة (86) من الدستور التي تشترط فقط أن يكون هناك سبب كافي لتوقيف النائب أو محاكمته ليصوت مجلس النواب على رفع الحصانة عنه ومنح الإذن بمحاكمته. فلم يتطرق النص الدستوري إلى حكم تعطيل النائب عن عمله النيابي من جراء مباشرة الإجراءات القانونية أو الاستمرار فيها كمبرر مشروع لعدم رفع الحصانة البرلمانية عنه كما جاء في النظام الداخلي لمجلس النواب، وانما اعتد فقط بتوافر أسباب جدية وكافية للمباشرة بمحاكمته أو الاستمرار فيها. فيكون بالتالي حكم المادة (139) من النظام الداخلي لمجلس النواب مخالفا لأحكام الدستور.

وعلى خلاف مجلس النواب، فقد جاء النظام الداخلي لمجلس الأعيان أكثر توافقا مع أحكام الدستور فيما يتعلق بمعيار التصويت على الإذن بمحاكمة العين، حيث أخذ بمعيار كفاية الأسباب لرفع الحصانة وجديتها بغض النظر عن أي تعطيل محتمل للعين عن عمله البرلماني. فقد نصت المادة (100) من النظام الداخلي لمجلس الأعيان على ضرورة أن يحيل رئيس المجلس تقرير اللجنة القانونية على المجلس بأسرع وقت ممكن، وأن يستمر المجلس في مناقشة الموضوع حتى البت نهائياَ في الأمر، وأنه إذا وجد المجلس سبباً كافياً لتوقيف العضو أو محاكمته فإنه يجب أن يتخذ قراره برفع الحصانة عنه بالأكثرية المطلقة.

لذا، فإن مجلس النواب مدعو إلى مراجعة أحكام التصويت على منح الإذن بمحاكمة النائب في نظامه الداخلي ليتماشى مع النص الدستوري بحيث يكون المعيار الأساسي لرفع الحصانة البرلمانية من عدمها وجود أسباب كافية ومقنعة لمحاكمة النائب بغض النظر عن أي تعطيل متوقع على عمله النيابي. فقرار المحكمة الدستورية الأخير في ظل عدم دستورية نصوص النظام الداخلي لمجلس النواب الخاصة برفع الحصانة البرلمانية سيجعل تصويت مجلس النواب على رفع الحصانة عن أولئك النواب الذين تحركت في مواجهتهم دعوى الحق العام أمر يصعب تحقيقه أو يتصور حدوثه على أرض الواقع، فتحولت بذلك الحصانة البرلمانية إلى وسيلة للتهرب من المحاكمة وأداة للافلات من العقاب.

العرب اليوم