الحرص على المال العام: ليس إلا تمثيلا
فجرت الوزيرة السابقة مها الخطيب، والتي شغلت حتى يوم أمس موقع رئيس هيئة مفوضي المناطق التنموية والحرة، أزمة جديدة؛ إثر تقديمها استقالتها احتجاجا على ضغوطات حكومية مورست عليها لبيع أراض لمستثمر ضمن منطقة البحر الميت التنموية.
القصة أن شركة تعود ملكيتها لنائب حالي، يرأس أيضاً إحدى اللجان المهمة في مجلس النواب، ضغط على الخطيب من خلال الحكومة، لشراء الأرض بمبلغ 75 ألف دينار للدونم، بدلا من الثمن الحقيقي الذي يبلغ 250 ألف دينار؛ أي بقيمة تقل عن السعر الحقيقي بحوالي 175 ألف دينار للدونم الواحد.
الخطيب اتخذت قرارا شجاعا بكشف المستور، والذي يؤكد، للأسف، عودة عقلية الإدارة العامة إلى ما قبل "ربيع" الحراك الشعبي الذي رفع شعار محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين. وهي العقلية القديمة التي تطاولت على المال العام من دون حساب المجتمع.
خطوة الخطيب فضحت أيضا السلطتين التنفيذية والتشريعية، غير الآبهتين عموماً، إلا من رحم ربي من قلة بين أعضائهما، بالحفاظ على حقوق الخزينة في أراضيها، ظنا من هاتين السلطتين أن كل المسؤولين من طينة واحدة.
الأهم أن الخطيب قدمت نموذجا جديدا ومطلوبا شعبيا لمسؤول يرفض تمرير صفقات من تحت الطاولة؛ مفضلة أن تدفع اليوم الثمن بالمغادرة، بدلا من تحمل تبعات القرار مستقبلا.
مسلك الخطيب يذكرنا بكثير من الصفقات والاتفاقيات التي وقعتها حكومات كثيرة، ثم اكتشفنا لاحقا أنها لم تكن إلا "تنفيعات"، صارت عقب ذلك ملفات فساد، وعلى رأسها "الكازينو" و"الفوسفات" وغيرهما.
هذا النوع من الفساد وقع في الماضي لأن مسؤولين كثرا هابوا رفض الضغوط، ولاذوا بالصمت والاستسلام، عوضاً عن خوض المعارك حماية للصالح العام.
الخشية تزداد من عودة هذه العقلية لإدارة أمرنا. فالأمثلة صارت كثيرة على ذلك ومستفزة، من بينها الخبر الصاعق الذي نشرته "الغد" قبل يومين، للزميل عبدالله اربيحات، حول مسؤولَين سابقَين يرفضان وقف اعتداءات على "أراضي الدولة"، ولنكتشف أن قرارات قضائية حُفظت في الأدراج، فلم يتمكن أحد من تطبيق القانون على المسؤولَين.
الحكم في قضية الاعتداء على الأراضي من قبل المسؤولَين تعود لمطلع العام 2012، عندما شكلت وزارة الزراعة، بتوصية من هيئة مكافحة الفساد، لجنة تحقق حول تعدي متنفذين ومسؤولين سابقين على أراضي تعود ملكيتها لوزارة الزراعة "حراج" وأخرى للخزينة، في محافظة مادبا. وها نحن نكتشف بعد سنوات أن القرار لم يكن إلا استجابة وهمية للشارع، إذ ما يزال حبرا على ورق.
المخفي خلف القصة أن اتخاذ القرارات باستعادة الأراضي ووقف التطاول على المال العام، لم يكن إلا نتيجة لضغط الشارع الغاضب الحانق، والذي يظن المسؤولون اليوم أنه كان سحابة صيف تلاشت، ولا يوجد ما يمنع، بالتالي، من معاودة الكَرَّة ورفض الانصياع للقانون والقضاء.
والخطير اليوم أن المسؤولين لم يعودوا يرون القيام ببيع أراضي الخزينة بسعر بخس خطيئة؛ وأن لا ضير من ذلك طالما أن الشارع هدأ بفعل ما يحدث في دول الجوار، وليس رضا عن سياسات الحكومات التي يبدو أنها لم تتوقف عن الاستخفاف بالناس، إلا تمثيلا.
في الماضي، قلنا إن محاسبة الفاسدين واستعادة المال العام تبدو قضية صعبة. وقدم البعض تنازلا بأن "عفا الله عن مضى". لكن يبدو أن تسامح الأردنيين مع الماضي، أعاد فتح الباب للاستخفاف بهم وبمطالبهم وقف الفساد؛ فها نحن نراه مجددا، بلا وجل أو حساب.
المؤثر والغريب في القصة أنها تتم في عهد رئيس الوزراء د.عبدالله النسور الذي طالما طربنا لخطاباته النيابية الرنانة، والمطالبة بوقف التطاول على المال العام.
الغد