الحراك السياسي والتحول الديمقراطي

الحراك السياسي والتحول الديمقراطي
الرابط المختصر

يرى السيد ياسين أن التحول الديموقراطي – في معناه الحقيقي – معناه الانتقال من نظام سياسي سلطوي إلى نظام سياسي ديمقراطي. ومعنى ذلك إذا درسنا بعمق الحالات المتعددة للنظم السياسية العربية – نجد أن التحول الديمقراطي لم يتم في أي بلد عربي حتى الآن ! .

إن معظم الدول العربية شهدت في السنوات العشرين الماضية اختيارات إصلاح سياسي وظفتها لكسب الشرعية في الداخل وعلى الصعيد العالمي، إلا أنه لم تتجاسر أية دولة عربية لتغيير طبيعة النظام السياسي فيها تغييراً حقيقياً، ينقلها من إسار السلطوية الخانقة التي تهيمن بالكامل على مقاليد المجتمع إلى آفاق الليبرالية الرحبة التي تمارس فيها بحق التعددية السياسية وتداول السلطة، ويلعب المجتمع المدني دوره المحوري في التعبير مع الأحزاب السياسية عن مجمل مطالب المجتمع.

ويشهد على ذلك – كما يقرر تقرير كارنيجي – أن الحالات العشر التي تمت دراستها وإن كشفت عن التنوع الكبير فيها، إلا أنها جميعاً ما زالت إلى درجة كبيرة نظماً سلطوية.

على سبيل المثال نجد أن النظام السوري ما زال سلطوياً بالكامل، لأنه حال دون ظهور مجموعات معارضة منظمة. وكذلك السعودية ما زالت سلطوية، رغم بعض الإصلاحات التي جعلت النظام السياسي فيها أكثر انفتاحاً.

ونجد مناخاً آخر في لبنان وفلسطين، حيث يتمتع المواطنون بحرية أكبر في مجال التعبير وتشكيل الأحزاب، إلا أن ضعف المؤسسات وجسامة المشكلات لا تتيح للديمقراطية أن يتعمق مجراها.

من ناحية أخرى لا شك أنه في الدول شبه السلطوية مثل الجزائر ومصر والكويت والأردن والمغرب واليمن، اتسعت ساحة المشاركة الشعبية بشكل ملحوظ في العقدين الماضيين، إلا أن هذه التغييرات لم تؤدِّ إلى تحول ديمقراطي حقيقي.

ويبقى السؤال الرئيسي: لماذا لم يتحول الحراك السياسي إلى تحول ديمقراطي حقيقي ؟

في ضوء تقرير مؤسسة "كارنيجي" يمكن حصر الأسباب في عدد من الظواهر التي قيدت من انطلاق عملية التحول الديمقراطي. ولعل أول هذه الأسباب هو أن عملية الإصلاح السياسي التي تقوم بها النُّخَب السياسية الحاكمة من أعلى كانت محدودة، وهي وإن حاولت مواجهة مخاطر التذمر السياسي والسخط الاجتماعي، إلا أنها – خوفاً من المخاطر – لم تتجه هذه الدول إلى تطبيق أي إجراءات من شأنها أن تغير من طبيعة احتكارها للسلطة السياسية، والممانعة في مشاركة سياسية حقيقية في مجال صنع القرار.

ولذلك بدلاً من أن تحقق هذه الدول وعود الحداثة السياسية التي تنص على حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم والتعددية السياسية والانتخابات الدورية النزيهة على كافة المستويات، وأهم من ذلك تداول السلطة، قنعت بمحاولات متعددة في مجال تحديث المجتمع في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بدرجات متفاوتة من النجاح النسبي والإخفاق الكامل، نظراً لغياب رؤى إستراتيجية متكاملة تقود عملية التغيير الاجتماعي.

وفي بعض البلاد العربية التي لم تقنع بأن يكون الحاكم هو رائد الإصلاح السياسي، كما هو الحال في المغرب التي قدم فيها الملك محمد الخامس نموذجاً للحكام السلطويين المحدثين، فإن بلداً مثل مصر حاول فيها الحزب الحاكم وهو الحزب الوطني الديمقراطي، تحقيق هدفين رئيسيين هما تشكيل حكومة أكثر كفاءة وإجراء إصلاح اقتصادي ومواجهة البيروقراطية، ومكافحة الفساد، وإقامة شراكة وثيقة بين القطاع العام والخاص، بل إعطاء الأولوية في مسؤولية التنمية للقطاع الخاص. ومع ذلك يمكن القول إن هذه التغييرات المهمة والتعديلات الدستورية المهمة التي حدثت فيها، لم تؤدِّ إلى تحول ديمقراطي حقيقي.

غير أن سبباً آخر من أسباب التعثر الديمقراطي العربي هو ضعف وتشتت المعارضة السياسية، مما جعلها عاجزة عن الالتحام بالقواعد الشعبية وتعبئتها لتكوين رأي عام قوي يدعو إلى التحول الديمقراطي الحقيقي. والحقيقة أن الأحزاب السياسية العربية تمارس دورها في إطار هامش بالغ الضيق، نظراً لتعدد القيود التي تفرضها الحكومات العربية على حركتها.

غير أنه بعيداً عن القيود المفروضة على أحزاب المعارضة، فإن فشلها الأكبر يبدو في العجز عن التجدد المعرفي فيما يتعلق بالتحولات الأساسية للمجتمع العالمي وانعكاساتها على الأوضاع المحلية في كل بلد عربي، بالإضافة إلى عدم القدرة على صياغة رؤية إستراتيجية بديلة للرؤى الرسمية السائدة من شأنها تغيير اتجاهات الرأي العام، وتبصيره بأن هناك سياسات بديلة يمكن أن تكون أكثر فاعلية في سد الاحتياجات الأساسية للجماهير العريضة وتحقيق التحديث الفعلي للمجتمعات من السياسات الحكومية القاصرة أو الفاشلة.

وإذا كان المشهد السياسي العربي يعبر عن تنامي قُوَى أحزاب المعارضة الإسلامية بحكم تماسكها التنظيمي، والبساطة الخادعة لشعارها وهو "الإسلام هو الحل"، إلا أن معارضة الأحزاب السياسية لهذا التيار الإسلامي لا تقل ضراوة عن عداء النظم السياسية الحاكمة له، على أساس أن هدفه هو تكوين دول دينية وتقويض أسس الدولة العلمانية العربية، ما من شأنه أن يقضى على الديمقراطية.

وإذا وجهنا نظرنا إلى البرلمانات العربية وجدنا أنها – رغم بعض الإصلاحات السياسية – لا ترقى سلطاتها التشريعية إلى تلك الموجودة في البلاد الديمقراطية، بالإضافة إلى أن الدساتير العربية تمنح السلطة التنفيذية سيطرة مفرطة على السلطة التشريعية.

ومن المتفق عليه أن المجتمع المدني يعد من بين الفواعل الرئيسية في أي نظام ديمقراطي، بحكم أنه الذي يعبر عن تطلعات الرأي العام إزاء السلطة السياسية. غير أن مؤسسات المجتمع المدني العربية لا يمكن لها أن تلعب دوراً رئيسياً إلا إذا استطاعت تكريس استقلالها عن النظم السياسية، ووضع برنامج عمل ديمقراطي، والقدرة على بناء تحالفات مع قطاعات أخرى في المجتمع، مثل الأحزاب السياسية للانتقال من مجرد الحراك السياسي إلى التحول الديمقراطي الحقيقي.

ومما لا شك فيه أن سيطرة النظم السياسية الحاكمة على مجمل الحياة الاقتصادية واحتكارها عملية إصدار القرار في هذا المجال الحيوي، هي التي تخول لها في الواقع التقييد الفعلي لخطوات التحول الديمقراطي.

ولا يمكن أن تكتمل صورة المشهد السياسي العربي بغير إشارة – حتى لو كانت موجزة – للتأثير غير المحدد للأطراف الدولية. فقد ذاعت – خصوصاً في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش – نظرية تصدير الديمقراطية الغربية إلى البلاد العربية، وكانت أوهامه تتحدث عن خلق ديمقراطية عراقية يمكن الاقتداء بها في العالم العربي. غير أن هذه النظرية – بكل ما تتضمنه من ضغوط صريحة سياسية واقتصادية على النظم السياسية العربية السلطوية – قد فشلت فشلاً ذريعاً.

وأسباب الفشل متعددة، ولعل أهمها عدم الفهم الغربي الكامل لأهمية الخصوصيات السياسية والثقافية في كل بلد عربي، بالإضافة إلى تخلي الدول الغربية عن الضغط السياسي، خضوعاً لمصالحها السياسية المباشرة مما جعلها لا تواجه السلطوية العربية مواجهة حقيقية.

ويلفت النظر حقاً أن تقرير مؤسسة "كارنيجي" استطاع أن يستخلص – بعد جولة طويلة مع النظم السياسية العربية المتنوعة – ثلاثة دروس أساسية.

الدرس الأول أهمية معرفة خصوصيات وظروف كل دولة عربية على حدة. والدرس الثاني الإقلاع عن نظرية تصدير الديمقراطية، وممارسة الضغوط السياسية الصريحة، والاكتفاء بدور تسهيل الانتقال من السلطوية إلى الليبرالية. والدرس الثالث والأخير هو أهمية التنسيق بين الضغط الدولي وبين المتطلبات الداخلية.

وهكذا يمكن القول إن هناك فعلاً حراكاً سياسياً ملحوظاً في العالم العربي لكنه لا يتوقع منه في الأجل المتوسط أن يصبح تحولاً ديمقراطياً حقيقياً؟ ما أصعب عملية تصفية احتكار السلطة، والمشاركة الجماهيرية فيها! وأكبر دليل على ذلك ما يحدث في عام 2012 في سورية بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي المعاصر .

العرب اليوم

أضف تعليقك