"الجنرال" في شموخه
"أنا شخصية العجوز والبحر لهيمنغواي: لم أظفر إلّا بهيكل عظميّ!"
هذا ما قاله رَجُلٌ ليس كالرجال العابرين في الحياة عبور أشباحٍ لا يخلّفون وراءهم أثراً. ما قالته شخصية يجوز لأيّ متأملٍ موضوعيّ للتاريخ وضعها في مصاف الذين "يصنعون التاريخ". ما قاله الجنرال ديغول الذي حفر لفرنسا، خلال الحرب العالمية الثانية، مساراً أخرجها من عار الهزيمة والاحتلال النازي، وأشركها في انتصار المقاومة والتحرير. ما قاله عَسكريٌّ عرف كيف يصوغُ معادلةَ الانتقال من بِزة الثكنات، إلى أناقة رئيس مدنيّ منتخَب استحق المكوث في الأليزيه عشر سنوات (1959- 1969). مَن رسمَ لفرنسا خطّاً مستقلاً عن الولايات المتحدة داخل أوروبا. لكنه، رغم ذلك كلّه، يُفضي بهذه الجملة المريرة أيام انسحابه فانعزاله وعزلته؛ إذ قرر الشعب الفرنسي إنهاء "دور" البطل، فاستجاب خاضعاً لنتيجة الاستفتاء.
لا أعتقد بأنه أمِلَ بمكافأة أخرى، إثر انتفاضة الطلّاب والعمّال، أيار1968، وتداعياتها؛ وإلّا ما نطق بتلك العبارة المريرة. لكنه ارتضى لنفسه الانسحاب، وبهدوء الراسخين فوق قمةٍ نحتها بيديه هو.
مَن يقرأ كتاب "سقوط السنديان"، المتضمن حواراً متصلاً بين الجنرال ديغول في شهور حياته الأخيرة، وأندريه مالرو، إنما يقرأ مونولوجاً مخترقاً للديالوج لا مثيل لأي كتاب يضاهيه. ليس ثمّة أسئلة تُطرح لا تمتلئ بإجاباتها (من كِلا الرجلين)، وليس ثمة إجاباتٍ تخلو من إحالات على التاريخ وشخصياته تتلبسها المساءلة!إنه كتابُ "حوار" فريد بين رَجُل ثقافةٍ وفكر يُعتبَر من أبرز علامات القرن العشرين، بالمقابل من رَجُلٍ تاريخيّ عجوز، تتداعى ظلال سنوات عمره عبر تلميحات، وتعليقات، واستعادات لا يتحلّى بها غير الحائزين على أعماق ثقافية مُصَفاة. ثقافة هادئة تحاور ثقافة أكثر هدوءاً، وأيّ حصادٍ يمكن جنيه أثناء القراءة وبعدها سوى هذه المتعة السلسة للذكاء والرهافة!
هذا كتابٌ مَرَّ مرور الكرام دون أن ينال ما يستحقه من تكريم! من دون حفاوة القراءة المحترمة للكلمة المضمخة بالجميل: بالذكي: بالمثقف: بالعارف: وبالدافع أيضاً لولوج شَجَن الماضي، المستعاد على وَقْع تخاطر رجلين ليس بمقدور المستقبل استعادتهما في صورتين تماثلهما!
كتابٌ جديد، صدر حديثاً؟
أبداً. كتابٌ مرَّ على نشر ترجمته للعربية بأداء د. سامي الجندي المميز 34 سنة! ياه! كلّ هذه السنين، ويكاد لا أحد يذكر أو يتذكّر كتاباً يحمل هذا الاسم! وربما ناشره كذلك: المؤسسة العربية للدراسات والنشر!
أكثر من سبب دفعني للكتابة عن هذا الكتاب. لا لتميّزه في موضوعه الفريد وحسب، أو لخصوصية "كاتبيه" كلُّ في مجاله، أو للفِطنة والتقاطات الذكاء العابرة لصفحاته الـ148؛ هذا بمجموعه واردٌ ومُغْرٍ، غير أنّ أمراً ظلَّ يقلقني طوال استغراقي في قراءته (أم غَرَقي؟) يتمثَّل في السؤال التالي:
لماذا لا يتحلّى رؤساء بلداننا، و"الزعماء التاريخيون" لأوطاننا الممجدة (المغسولة بالدم هذا الزمن والآيلة للتفتت)، بقليلٍ من ثقافة هذا الجنرال العجوز، واطلاعه الواسع والعميق المتأمل المُسائل للتاريخ والمتسائل عنه في الوقت نفسه؟ لماذا لا يفهمون التاريخ ومعانيه، فينسحبون من المسرح، وبهدوء الراسخين حقاً فوق قممهم المنحوتة بأيديهم، عندما تطالبهم شعوبهم، واللحظة التاريخية، فيفعلون؟
لا أكتب في السياسة، غير أنّ السياسة المخاتلة في كل صفحة في الكتاب المثقف "سقوط السنديان"، تسحبني نحوها، فأشير إليها رغماً عني! لا، لستُ مرغماً هنا بقدر انضباطي في أحد سياقات التجوال الفسيح لاقتباسات واندياحات ذاكرتين مشبعتين بأحداث باتت مسطورةً في كتاب التاريخ الذي لم يغفلهما، فكانا في أوراقه المضيئة بامتياز.
أكتب عن كتابٍ طاله الظلم لأنبِّهَ وأنصح بقراءته، معترفاً بأني أجّلتُ فعل هذا مذ اشتريته في 7/12/1981! كتابٌ تنقل على رفوف مكتبتي أكثر من مرّة من دون أن يغيِّر من كلماته حرفاً واحداً. كتابٌ انتظرني أربعة وثلاثين عاماً بصبرٍ وأمل! كتاب كبرَ كلّما كبرتُ أنا! كتابٌ تكثفت قيمته المعرفية عبر السنين، بينما زاد وثوقي من تناقص معرفتي بعد كلّ هذه السنين.
قد يسقط "السنديان"، لكنه يبقى سندياناً شاهداً على هشاشة سواه من أعشابٍ/ كتبٍ لا تماثله في شموخه.
إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.