التوجيهي.. محنة الدولة والمجتمع
يؤشّر "التوجيهي" على محنة اجتماعية اقتصادية كبرى، وليس تهويلاً القول إن عدم التوافق على النظام التعليمي هو تعبير عن أزمة في تعريف شكل الدولة والمجتمع والهوية التي نريد، وتعطيل التفكير بها لصالح خطوات جزئية ترقيعية يندرج في باب التغطية على اضطراب أوطاننا منذ استقلالها إلى اليوم.
إلغاء "ناجح – راسب" في امتحان الثانوية العامة هو عنوان إصلاح حقيقي تنقصه إيضاحات لم تقدّمها وزارة التربية والتعليم عند إطلاق مشروعها لـ"تطوير الامتحان"، ونحن هنا إزاء مستويين من النقاش؛ تثبيت آليات قياس جديدة لتحصيل الطلبة تطال المنظومة التعليمية من رياض الأطفال وحتى الجامعة، تُنهي تلك التنافسية الداروينية في انتخاب الأول والثاني والثالث.. والأخير وفق المجموع العام، ويصبح التنافس في كل تخصّص (مبحث) على حدة.
ضمن هذه الآلية، يجري اكتشاف القدرات لدى كلّ طالب من أجل تطويرها، فينال الجميع فرصته في التفوّق في مادة أو اثنتين أو أكثر، وحظّه في التفوّق في مواد العلوم –مثلاً- من دون أن يُطلب منه أن يحصل على تقدير عالٍ في اللغة أو التاريخ –والعكس صحيح-، ويكفيه درجة من الإلمام في تلك المباحث التي لم يستطع أن ينافس فيها على معدلات عليا.
الاهتمام والرعاية التي سيتلقّاها الطلبة ستكون نوعية، وتتحدّد بناء عليها ميولهم وقدراتهم التي تقرّر الاختصاصات التي سيلتحقون بها في الجامعات، ما يحيل إلى المستوى الثاني من النقاش الذي يتجسّد في وضع تصوّر واضح ومفصّل لنظام القبول الجامعي لم يتبيّن في قرار وزارة التربية والتعليم بإلغاء "راسب – ناجح" في التوجيهي، ولا يعدو ما صرّح به إلى اليوم عناوين عامة فضفاضة.
هل تُلغى الاستثناءات وبرامج الموازي في القبول الجامعي التي تميّز بين طلابنا، حيث من يملك أكثر سيختار تخصّصه الأكاديمي الذي يريد عبر "البرنامج الموازي" أو الجامعات الخاصة أو الدراسة في الخارج، ومن يُوهب "إحدى المكارم المتعدّدة" يحصل على مقعد جامعي بمعدّل أقل مما ناله زميله ضمن آلية القبول التنافسي.
وبدلاً من تنمية التعليم في القرى والبادية والمناطق الأقل حظّاً، فإن "العقل" الرسمي يصّر على منح أبناء تلك المناطق استثناء مع الإبقاء على مدارس ببنية تحتية مترهلة ونقص في الكوادر التدريسية والمرافق التعليمية، ناهيك عن اضطرار طلابها للمشي كيلو مترات للوصول إلى مدارسهم.
ما هي العدالة التي سيوفّرها القرار "الإصلاحي" الجديد إذا بقي التعليم المدرسي يعاني كلّ هذه الكوارث والمصائب وينحدر بوماً بعد بوم، ويكرّس مزيداً من الفوارق الطبقية والاجتماعية في الدراسة الجامعية، التي تفاقم سؤال الدولة والهوية والمواطنة ومصير "المجاميع البشرية" الذين فشلت المنظومة التربوية في جعلهما تنتمي إلى مجتمع واحد متماسك، يمتلك أبناؤه الإرادة والتمثيل لتنميته والنهوض به.
أما أولئك الرافضون للقرار بحجة أنّه يدمّر العملية التعليمية فإنهم يمارسون الخلط في العديد من النقاط التي يطرحونها، وهم يعبّرون عن عقلية ماضوية ترى في القرار المذكور تمهيداً لخصخصة التعليم، التي هي مطبّقة فعلياً بدليل التحاق فرابة نصف مليون طالب في رياض الأطفال والمدارس الخاصة، كما تظهر إحصائيات وزارة التربية، وبالتالي نحن نعيش أسوأ عملية خصخصة ستؤدّي عما قريب إلى مضاعفة هذا الأرقام سواء أقرّت الوزارة إلغاء الرسوب في التوجيهي أم لم تلغه.
القول بأن نظام التوجيهي الحالي في الأردن تتبعه جميع الدول التي لديها النظام نفسه، هو غير دقيق، وتحوير للنقاش عن أصله، فالمشكلة في الامتحان الوزاري العام أنه نتاج مرحلة عاشتها أوروبا بعد الثورة الصناعية، ومن ثم جرى تعميمه على دول العالم بنسخ بريطانية وفرنسية ولاحقاً أميركية، وقد جرى تعديله جذرياً وحتى إلغائه في البلدان الأم التي وضعته أساساً.
نقاش القرار بدعاوى مثل: هل يُعقل أن يدخل الجامعة راسب في مادة معينة؟ وأنه سيحفّز الطلاب إلى عدم دراسة مواد بعينها وأنه سينعش سوق الجامعات الأهلية هي جميعاً ذرائع تفضي إلى حقيقة جارحة ومؤلمة بأن الدولة تتخبط وأن المعترضين عليها لا يملكون سوى تشكّكاتهم، التي وإن كان بعضها صحيحاً، إلا أن مردّها أزمة في عقلية المؤسسة التي أضحى أفرادها خارج اللحظة وتعطّلت إمكانيتهم في التغيير.
هل يجب أن يُلغى الرسوب في التوجيهي؟ في نقاش الإجابة قد نذهب إلى إلغاء الامتحان من أساسه في حال تطّور التعليم وتخلّصنا من الوصاية والتراتبية التي تنتج عنها طبقياً واجتماعياً وسياسياً، وهذا يحتاج إلى وعي وإرادة يتجاوزان السلطة لا أن نتساوى معها في العجز أو ربما نتراجع خلفها أميالاً.
محمود منير: كاتب وصحافي أردني. محرّر “تكوين” في عمان نت.