التنوير الذي نريد

التنوير الذي نريد
الرابط المختصر

 

تصادف اليوم ذكرى تعيين الفيلسوف الليبرالي مصطفى عبد الرازق شيخاً للأزهر في عام 1945، ليتمم مسيرة نصف قرن قضاها في تدريس الفلسفة في جامعة القاهرة –وكان ذلك أبرز أسباب اعتراض الأزهريين عليه-، ويموت بعدها بعام وشهرين من دون أن يحقق حلمه بإصلاح التعليم في واحدة من أعرق الأكاديميات الإسلامية.

 

مع ذلك كلّه، تستحق تجربة الرجل "المعمم"، الذي ناصرَ "أصحاب الطرابيش" في السياسة، نقاشاً مستفيضاً سواء مع المعتاشين على دعوات الإصلاح الديني عبر الأزمنة المتعاقبة، أو أولئك "العلمانيين" الذين يحنوّن إلى زمن جميل يغطي هزيمتهم في الواقع، فتراهم يزوّقون الماضي وفق رغباتهم، بلا تنقيب في طبيعة الصراع في المجتمع وتحولاته.

 

ينتسب والده الشيخ حسن عبد الرازق إلى فئة اجتماعية صاعدة -من كبار الفلاحين المصريين- تقاسمت ملكية الأراضي مع العائلات التركية، التي احتكرتها زمناً طويلاً، وبغض النظر عن عوامل متعددة ساهمت في إعادة تشكّل النخب المصرية أواخر القرن التاسع عشر، فإن مصطفى نشأ في بيت أحد أعيان مصر الجدد، الذين أسسوا تنظيماً سياسياً ليبرالياً باسم "حزب الأمة"، وكان الوالد وأبناءه مقربون من الإمام محمد عبده، وقد اجتمعوا كلهم، حينها، على استعارة "حداثة المستعمِر" لبناء وطن قومي للمصريين.

 

خلاصة قد لا تعجب كثيرين، وهي بحاجة طبعاً لمزيد من التمحيص، لكن الثابت أن "تسييس" مصطفى عبد الرازق لم يأت ثمرة إيمان بفكرٍ سياسي محدد، وهو كذلك لم يحمل موقفاً واضحاً تجاه عدد من القضايا الكبرى في زمنه، إنما كان وفياً لطبقته وطموحاتها وانحيازاتها لهوية مصر وشخصيتها، كما تراها هي.

 

عندما تباينت اتجاهات هذه الطبقة، وتفرّق أبناؤها إلى عدد من الأحزاب، شارك في تأسيس حزب "الأحرار الدستوريين"، ثم دارت الأيام ليؤسس في بيته مع رموز الليبرالية -آنذاك- "الحزب الديمقراطي"، واختار بنفسه هذه التسمية عقب نزاعٍ بين مؤسسيه، الذين احتاروا بين الاشتراكية وبين حرية الفرد، فانحاز بهم الشيخ إلى الديمقراطية.

 

"انحياز" قصّر من عمر الحزب الوليد، وأكد على رؤية صاحبه، الذي اختار أن يفوّض الشعب المصري، وهو أسير الاحتلال البريطاني وحكْم ملكي فاسد، إلى انتخاب هيئة نيابية تشرّع "القوانين العادلة"، وتحاسب الحكومة.

 

قد يستنكر البعض خيارات مصطفى عبد الرازق السياسية، لذلك ينبغي التذكير بأن انتقادات معارضيه انصبت –حينئذ- على تأييده الاختلاط في التعليم، وعدم فرض الحجاب على المرأة، وحضوره –لمّا شغل وزارة الأوقاف- حفلات السهر التي كان يقيمها أهل السياسة والفن.

 

تبدو خياراته الفكرية أكثر إثارة للجدل، فهو وإن آمن بنمط عيش عصري ومنفتح على الآداب والفنون، وقع في مأزق معرفي في إصراره على وجود فلسفة إسلامية تمزج كتب الفلسفة وآثار علماء الكلام والفقه في سياق الرد على آراء المستشرقين -الذي كان يبادلهم الاحترام والتقدير- بنفيهم "التفلسف" عن العرب والمسلمين، ليساوي بذلك بين جهود الفلاسفة وبين مقولات الفقهاء، ووضعهما في مرتبة واحدة!

 

إعجابه الشديد بأم كلثوم، وصداقة النحات محمود مختار، وتشجيعه مي زيادة لنشر مؤلفها الأول، وعلاقته الاستثنائية مع طه حسين، وانتمائه إلى المدنية منظومة قيم وحكْم، لم تجعله يفصل تماماً بين الدين باعتباره إيماناً شخصياً أو بوصفه يمثّل الشريعة وأحكامها، وبذلك ظلّ "التنوير" مفهوماً ملتبساً لديه، ولم يستطع أو يرد تحرير الثقافة الإسلامية من نزعاتٍ سلفيةٍ متشددة.

 

وربما يشترك معه في هذه الرؤية شقيقه الأشهر علي عبد الرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكْم"، فبعيداً عن احتفاء كثير من "التنويريين" به، فإن المؤلَف الذي مُنع، وتعرّض كاتبه للتكفير، هو حصيلة اجتهاد بحثي كبير لتفكيك فكرة الخلافة، وإثبات لا واقعيتها، فيما لم يطالب بإنهاء دور الدين في الحياة العامة.

 

سعى مصطفى عبد الرازق إلى التوفيق بين إسلام "عصري" وانتماء وطني مصري متصالحاً مع نفسه وأفكاره وطبقته، غير أن مضي سبعة عقودٍ على رحيله تكشّف عن تعمّق الالتباس حول "تحديث" الدين، ولم نقتنع إلى اليوم بأن هذا المطلب، الذي يعدّ مستحيلاً، لا يعني عامة الناس، حيث فشلوا بسبب ذلك وغيره من الأسباب في حسم انتمائهم الوطني أيضاً.

 

"فشل" يضاف إلى خسارتنا حقبة بأسرها كانت –على أقل تقدير- تقبل تعدد الآراء في الفكر والسياسة!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.