التفكير الديني أم الفكر الديني؟

التفكير الديني أم الفكر الديني؟

 

 

 

ثمة مصطلحان مختلفان لمفهومين مختلفين أيضاً، فالحديث عن التفكير الديني يختلف عن الفكر الديني، فالثاني هو نتاج للأول، أي أنه ليس هناك فكر ديني إلا من خلال التفكير فيه، فالفكر هو قضية تاريخية إنسانية أنتجتها ظروف المكان والزمان والمنهج والأدوات، وهو أيضاً متغير على وفق أدوات التفكير التي أنتجته في لحظة معينة.

 

من هنا تظهر مشكلتنا اليوم، ويمكن تشخيصها بأن علماءنا ومفكرينا –أقصد علماء الشريعة– قد اهتموا اهتماماً كبيراً بالفكر الديني، وظهرت الدراسات والبحوث والكتب التي تعالج الموضوع من جوانبه كافة، ولذا وقفوا عند لحظة واحدة، أو لنقل عند لحظات مختلفة، لكنهم لم يبحثوا كثيراً في التفكير وأدواته وأساليبه، وأغفلوه، فوقعوا في متاهات الاختلافات الناتجة عن اختلاف طرق التفكير، وألزموا أنفسهم بالبحث عن تفسيرات للماضي وتطويعه من أجل أن يتناسب مع الحاضر، فاستعصى عليهم، ووقعوا في شباك القياس في كثير من المسائل، متناسين الظروف الأخرى غير تلك المتعلقة بالمضمون.

 

لا تقاس المسائل الفقهية مثلاً – برأيي–، لأننا لو استطعنا أن نقيس مضمون المسألة فإننا لا نتوصل إلى قياس الظروف المحيطة بها، إلا إذا كانت مفصلة بشكل لا يقبل الشك، وبذلك بقي العلماء في أسر الماضي، ولم يتوصلوا إلى نتائج يمكن أن تؤدي إلى تطوير الواقع الحاضر.

 

وإذا كانت الأديان في زمن سابق تملك أسرار تفسير الحياة والموت والمصير والمرض والظواهر الطبيعية، فإن العلم قد حل كثيراً من تلك الأسرار، واستطاع أن يتجاوز التفسيرات القديمة لكثير من القضايا بطريقة أكثر عقلانية، حتى إن العلم في العالم الغربي صار بديلاً عن الدين، بل عدواً له، لأن كلاً منهما ينطلق من منطلقات مختلفة ومتناقضة، والأكثر من ذلك أن ثقة الإنسان بالعلم تجاوزت ثقته بالدين، حتى عند المسلمين -وإن لم يعترفوا به صراحة- والدليل على ذلك أن كثيراً من العلماء المسلمين صار يلوذ بالعلم لإثبات صحة القرآن، وكثيراً ما نسمع اليوم أن العلم اكتشف قضية كانت موجودة في القرآن، كما أن كثيراً من الأحاديث النبوية صارت تأخذ قوتها من خلال الاستدلال بما أثبته العلم!

 

إن العالم الغربي حينما اتخذ من العقل دليلاً وهادياً فإنه قد بنى طريقة تفكيره على ذلك، فجعل الدين حالة فردية تخص العلاقة بين الإنسان وربه، وبنى مناهجه وعلومه وسلوكه وطرق تربيته أيضا على تلك النظرية، أما نحن المسلمين فإننا نعيش في مرحلة ضبابية بين العلم والدين، ونحاول جاهدين بكل ما أوتينا من قوة البيان والكلام أن نقنع أنفسنا أن لا تعارض بينهما، ولذا فإننا إما أن نأخذ العلم بديلاً، أو أن نجعل من الدين أداة تفكير نتوصل بها إلى نتائج تفوق النتائج التي توصل إليها الإنسان بالعلم، أي أن يصبح الدين منهج تفكير، وعليه أن يقدم نظرية إنسانية تجيب عن الأسئلة المتعلقة بحياة الفرد والجماعة والعقل والمجتمع والاقتصاد والسياسة وأنظمة الحكم.. الخ.

 

وعلى الدين، وفق هذا النهج، الإجابة عن أسئلة الإنسان المعاصر بكل ما يملكه من تطور علمي واقتصادي وسياسي واجتماعي، هذا فضلاً عن المشكلات المتعلقة بسياسية إدارة شؤون الناس وأنظمة حكمهم، والمشكلات المتعلقة بالاقتصاد والمال، والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والمناهج التربوية والتعليمية وطرق التفكير؛ لأننا ما زلنا نتحدث عن أهل الحل والعقد والشورى والخلافة، والخليفة الذي يحكم باسم الله، وطاعة ولي الأمر، وما زلنا نتباحث حول شرعية البنوك والأسهم والأسواق العالمية والبورصات، وما زلنا نمارس المواعظ والنصائح والخطب الرنانة في الأخلاق، وما زلنا نغرق في شرعية السؤال عن الكون والخلق والخالق، ونتصارع حول عذاب القبر وسياقة المرأة للسيارة ولبس الدشداش وطول اللحية.

 

إن التفكير الديني يعني امتلاك الأدوات المناسبة لدراسة المفاهيم الإسلامية ابتداء من الخالق وعلاقته بالإنسان، وحدود تلك العلاقة ومقوماتها، ومفاهيم الوحي والعقيدة والفقه والحديث والسنة والجمهور والإجماع والتوحيد والكفر والفِرق والأحزاب والفتوى والاجتهاد والعقاب والحساب والجنة والنار.. الخ، ثم فهم مدلولات عمارة الأرض والسير فيها والتفكر في الظواهر الطبيعية، ودراسة السبب والسببية والقوانين العلمية والسلوك الطبيعي للمادة ومكوناتها، والتعمق في فهم السلوك الإنساني وإصلاحه من خلال الكون وعلاقته بالنفس وما يعتريها، وسبر أغوار الجسد وما يطرأ عليه من أمراض وأدواء، ثم البحث في علاقات المسلمين مع الآخر، وفكرة بناء الدولة الحديثة والمواطنة، والأنظمة السياسية وأنظمة الحكم بالإضافة إلى الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وحقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة.

 

لكل ما تقدم فإن البحث في التفكير الديني يصبح مطلباً شرعياً فضلاً عن كونه مطلباً إنسانياً يسعى لتقديم تصور جديد للعالم من خلال البحث في مفاهيم النص الإلهي بعيداً عن الاستسلام لمقولات التاريخ، والتحرر من سطوة الموروث، والتجارب الخاصة وصولاً للفكر الإنساني الحر والمتحرر.

 

  • د. يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.
أضف تعليقك