التاريخ والنص الغائب

التاريخ والنص الغائب

 

 

يقول ابن خلدون "التأريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم... وهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكّبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل.. فربما لم يُؤمَن فيها من العثور ومزلة القدَم والحَيَد عن جادة الصدق". لقد ظل التاريخ على قِدمه علماً مشكوكاً بعلميته وسرداً مشكوكاً بصحته وأحداثاً مشكوكاً بصحتها، وهو مع كل ذلك يسير ويتطور ولا تستغني عنه الأمم في جميع مراحلها.

 

من هنا فإن السؤال الذي يراودنا دائماً: من أين حصل التاريخ على هذا البريق؟ ولماذا يبقى الإنسان ينبش الماضي ويبحث فيه عن ضالته التي لا يجدها؟ خاصة فيما نشاهده اليوم ونعيش أحداثه المرعبة استناداً إلى مقولات التاريخ.

 

إن الفلسفة التي تقف خلف البحث الدائم عن معرفة الماضي لا يمكن أن تعود فقط إلى حب الاستطلاع والفضول الذي يتميز به الإنسان عن غيره، فلابد من سبب آخر أكثر عمقاً وأقدر على تفسير الظاهرة، فكما قال المؤرخون إن "الإنسان واعٍ بالعيش في التاريخ ولا يكتفي بالخضوع للزمن وكأنه قدر محتوم، فماهية الإنسان هي وعيه بالتاريخ"، والإنسان ليس ابن اللحظة الراهنة فقط، بل هو ابن الزمن الممتد، ولا يتحقق وجوده إلا لكونه متصلاً مع الماضي، وأي انقطاع يسبب له الضعف والتقهقر، ولذا تسعى الأمم دائماً إلى كتابة تاريخها والتغني به، وإذا لم يكن لديها تاريخ فإنها تصنعه لإثبات حق أو نفي شبهة أو تعميق وجود.

 

يقودنا ذلك إلى التساؤل عن صدق التاريخ بوصفه عملية نقل لما حدث، لأن ما حدث لا يمكن معرفته على الوجه الذي كان عليه تماماً، فليس هناك تطابق بين الماضي ومعرفة الإنسان له، فالتطابق مرهون بما يتوفر من وثائق وشواهد، ويبقى التطابق التام صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً. وهو بوصفه عملية تقريب بين ما حدث في الماضي والماضي ذاته فإنه يصبح عملية معقدة غير قابلة للقياس والموضوعية، لأن الحدث التاريخي عندما يتحول إلى عملية تأريخ فإنه لم يعد موجوداً على الحقيقة للحكم عليه، بل تصبح رؤيتنا هي القراءة الجديدة المتوفرة، فهل لدينا القدرة على الانفكاك من ذاتيتنا وعواطفنا وأحاسيسنا لنتعامل مع الماضي بشكل موضوعي؟ وما العلمية التي يجب على المؤرخ أو القارئ أن يتقيد بها عند دراسة الماضي؟ هل هو العلم كما يفهمه علماء الطبيعة، وذلك باستنتاج الوقائع والأحداث من علاقات حتمية علمية وقوانين موضوعية؟ فحتى العلوم الطبيعية لا تؤمن بوجود تفسير شامل وكامل ونهائي للظواهر الطبيعية، وكما يقول كارل بوبر "إن أي حقيقة علمية ليست حقيقة، لأن التجربة أثبتتها، بل لأننا لم نتوصل بعد إلى إثبات عكسها".

 

إن كان الأمر كذلك، فهل مهمة التاريخ تنحصر في سرد الأحداث ووصف الوقائع؟ ومن ثم تنتفي عنه صفة العلمية التي تقتضي التقنين والموضوعية، ويتحول إلى عمل سردي خالص. وإذا كانت أحداث التاريخ لا تتكرر بالمعنى العلمي للظواهر الفيزيائية والكيميائية فإننا لا نستطيع قياس الأحداث المتشابهة على بعضها؛ لأن أي حدثين مهما كانت أوجه التشابه بينهما كبيرة سيبقى هناك اختلاف حتى لو كان قليلاً، وحتى لو اتفقت مضامين أحداث معينة ونتائجها فإن هناك اختلافا سيبقى بينهما، ومن هنا يسقط مبدأ قياس الشاهد على الغائب في الأحداث التاريخية، ويسقط من ثم مبدأ القياس، ثم يصبح التقليد أمراً عدميا ًبلا فائدة.

 

إذا كانت علمية القياس التاريخي مستحيلة التحقق فإن ذلك يدعو إلى النظر في الهدف من التاريخ أساساً، ومدى جدواه وفائدته للحاضر. ومن هنا فليس مطلوباً قراءته بشكل علمي وموضوعي؛ لأن ذلك صعب التحقق، ولكن مطلوب منه أن يكون على مستوى الحدث من حيث القدرة على القراءة والنقد والتحليل وإعادة الإنتاج، فالعملية التاريخية كما قال ابن خلدون ليست نقلا محايداً، وكل قراءة في التاريخ هي إعادة إنتاجه ليخدم الحاضر، وإذا كان الإنسان ابن الحلقات المتصلة في الزمن، فإن ذلك يعني أن الأهمية تكمن في البحث عن حلقة الاتصال التي تربط الحاضر بالماضي ليكون فاعلاً ومؤثراً، وإلا فما الفائدة من نقل الأحداث كما هي وتقليدها اليوم تقليد أعمى على أنها الحقيقة المطلقة، فالتاريخ لم تعد أهميته تكمن في معرفة أخبار المدائن والدول والممالك والحروب والغزوات والانتصارات والهزائم، بل هو بحث دائم عن النص الغائب في كل حدث من خلال المقارنات والمقاربات، ثم إعادة إنتاج النص الغائب بما يوقظ الحاضر ويجعله قادراً على التأثير، وليكون محفزاً للواقع فيحرره من وهمه ويدفعه إلى الأمام.

 

المشكلة التي نعيشها اليوم هي أننا نقلد أحداث التاريخ، ونعيد إنتاجه كما كان في زمانه، وليس كما ينبغي أن يكون في زماننا، إننا نقرأه قراءة عمياء، تجعله لعنة تصيبنا وتساعد في تدميرنا، وتساهم في انقسامنا واقتتالنا. إننا نرجو بعد كل ذلك أن نتخلص من لعنة التاريخ، وننظر إلى فضاء المستقبل.

 

د. يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك