" البلد المهم والدولة التافهة"...!

" البلد المهم والدولة التافهة"...!

في كل مرة يقع حدث في البلد، تجري عملية مقارنة مع الدول العربية الاخرى، مثل مقارنة الحراك الاردني بالحراكات في دول عربية اخرى، او الربيع الاردني بالربائع، جمع ربيع، العربية.

 

المقارنة ليست نقيصة، هي منهج كامل في البحث والدرس وحتى التواصل. لكن تتحول نقيصة عندما تصدر عن شعور بالدونية او عقدة النقص، او عندما يجري انتزاعها من سياقها.

 

 

الغريب، انه مرات نلاحظ نوع من الشعور الذاتي بالدونية مقارنة بالاخرين. عندما تجد اردني مصاب بهذه المتلازمة، وكأن الاردن اقل شأنا من غيره.

 

 

دعوني اميز اولا بين مسألتين ،الاولى انه الاردن مهم في كل المناحي، الجغرافيا السياسية، المجتمع والنموذج والتاريخ.. الاردن كبلد مهم ومهم جدا. لكن الدولة الاردنية تعرضت لعملية تتفيه خاصة في العقدين الاخيرين، وهيك صار عندنا على رأي الصحفي اللبناني جهاد الزين "بلد مهم ودولة تافهة".
التعبير قاسي، ربما...

 

 

لكن في الواقع جرى فعلا "تتفيه" للدولة، يعترف في هذا التتفيه حتى في تقارير وبرامج رسمية، مثل تقرير حالة البلاد او مشروع النهضة.

 

حالة "التتفيه"، او بمعنى اخر انهيار مؤسسات وهياكل الحياة السياسية للدولة، حتى باتت الدولة غير قادرة على ادارة البلد المهم فعلا.

 

خلال العقدين الاخيرين تم تأسيس جهاز بيروقراطي موازي كبير، يقوده الديوان ويتبع له اكثر من 60 مؤسسة مستقلة وله موازنة خاصة، ولا يخضع للرقابة والمساءلة. عمليا ممكن تسمية هذا الجهاز بالدولة النيوليبرالية الجديدة.

 

 

في المقابل ترك الجهاز البيروقراطي القديم يتدهور لدرجة التعفن.

 

 

جرى تأسيس الجهاز البيروقراطي او الدولة الجديدة بحجج الاستثمار والنمو وعدم مرونة الجهاز القديم، الذي وصف بالديناصورات.

 

 

لكن واقع الحال، هو ان العهد الجديد اراد او كان بحاجة لقاعدة اجتماعية له، قاعدة تكون موالية بالكامل ومتخففة من ارث العهد القديم والولاء له. فجرى تأسيس هذا الجهاز ممثلا بكل الهيئات المستقلة، وانشأ جهاز امني جديد " الدرك" واعادة هيكلة القوات المسلحة والاجهزة الامنية...

 

وجرت عملية تعمية على تأسيس الدولة الجديدة من خلال صياغة " ثقافة" جديدة مستندة لخراريف عن "الدولة العميقة" او "الحرس القديم" " الديجتال" وغيرها من "مفاهيم" مخترعة.

 

الاردن بلد مهم، لكن الدولة الجديدة المتحكمة فعلا في الحياة السياسية، والمرتبطة مباشرة برأس الدولة الذي اصبخ يحكتر السلطة التنفيذية بالكامل، والدولة القديمة المتمثلة ببيروقراطية القطاع العام القديم، دخلت في صراع حاد ادى الى مزيد من العطالة السياسية.

 

 

هذا فاقم حالة الصراع في البلد، صار عندنا " حروب اهلية مخفية": حرب بين البيروقراطية الجديدة، الموازية، والبيروقراطية القديمة. وبسبب تضخيم الدولة اكثر فاكثر خلال العقدين الاخيرين صار عندنا حرب اخرى بين البيروقراطية والقطاع الخاص، بين العاملين في القطاع العام والعاملين في القطاع الخاص.. وهذا مرة اخرى، ادى لمزيد من العطالة السياسية، واحد اسباب ضعف الحراك الحالي.

 

لضرورات النهج الاقتصادي الذي اتبعته البيروقراطية الموازية، تم خصخصة كل شئ تقريبا، حتى القوات المسلحة والاجهزة الامنية. لكن أسوا ما انتجته الخصخصة هو ضرب الجامعات الوطنية، لم تعد الجامعات الوطنية، مستقلة، وتدهور التعليم فيها ولم تعد قادرة على انتاج نخب تقود السياسة والطبقات وتنتج معرفة وفكر وثقافة وتغني المشهد الثقافي والحياة السياسية ناهيك عن تخريج كفاءات علمية.

 

 

الدولة الجديدة، صارت عمليا ممثلة للقلة الثرية المتحكمة في الاقتصاد ايضا، رسخت راسمالية المحاسيب والقرايب والنسايب، ومركزت الثروة بايدي قلة لا تتجاوز 12% من المجتمع.

 

الاردن البلد المهم في موقعه الجغرافي، وفي دوره الاقليمي، وفي نموذجه التنموي، وفي تعددية مجتمعه، وفي تاريخه، اصبح يقاد من دولة اضعف من ان تستثمر هذه الاهمية.

 

اكثر، فقد جرفت او صحرت الدولة الجديدة ،وقبلها الاحكام العرفية الحالة السياسية، وسطحت الثقافة لصالح ثقافة استهلاكية هجينة، ورسخت ثقافة الفساد، واحتكار الاعلام، وضربت استقلالية الجامعات ودهورت التعليم العام لصالح نخبة قليلة العدد من المدارس الخاصة، ورسخت في الاذهان سردية وطنية او حكاية وطنية احادية اساسها ان كل المجتمع وكل المؤسسات غير قادرة على فهم او تطبيق رؤية القائد او سبع اوراق نقاشية او انه المجتمع غير جاهز لحكم الديمقراطية.اضافة الى سردية تاريخية احادية تجاهلت تاريخ البلد والمجتمع لصالح الحاكم، كل هذا كان مفترض ينتج اضافة للتصحير رؤية منقوصة للذات.

 

هيك، بتفهم لماذا يتم الانتقاص من الذات، لماذا يجري مثلا الاستهانة بالحراك والربيع الاردني مقابل الاخرين. ولماذا ينظر باستهانة لهذا الحراك قياسا بالحراكات العربية
يتناسى هؤلاءِ مثلا ان الربيع الاردني سبق كل الربائع العربية، وان سقف مطالبه وشعاراته تجاوزت كل سقف، وانه تعرض للعنف والقمع ربما اكثر من غيره. يتناسى البعض تاريخ الحراك، الذي لم يكن دائما على وتيرة حراك الرابع. يتناسى مثلا ان المظاهرات ضد حلف بغداد سقط فيها عدة قتلى واسقطت حكومة احد اهم رجالات الدولة، هزاع المجالي، واتت بحكومة هاشم العرفية. والمظاهرات ضد قرار الوحدة التي سقط فيها قتلى ايضا، وانتفاضة او هبة نيسان التي سقط فيها 14 اردنيا وجرح العشرات واعتقل المئات وادت الى عودة الحياة البرلمانية، ويتناسى انتفاضة معان و 24 اذار وموقعة راس العين....وفي كل هذا لم نكن اقل من غيرنا ان لم نكن سباقين.

 

 

تدفع الاستهانة بالنفس احيانا الى الاحباط.. الى عدم التعب على النفس، الى عدم الشغل على محاولة فهم وتحليل الواقع..

 

طالما في ناس تقول لنا اننا اقل من غيرنا، اقل تحركا، اقل ثقافة، اقل اهمية، اقل انتاجا للمعرفة للفكر، اقل شجاعة في التعبير في التظاهر في السياسة في كلشي صعب تقدر تشتغل اكثر حتى على تطوير نفسك ومعارفك او ثقافتك..

 

 

نحنا لسنا اقل، لكن ماذا نفعل حين يقودنا نظام يعمل ليل نهار على تصحير حياتنا السياسية والثقافية.

أضف تعليقك