الانحسار الإسرائيلي من أوروبا: ما التالي؟
ولّت تلك الأيام عندما كان بن غوريون يستطيع الحصول على تكنولوجيا قنبلة نووية من فرنسا، في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تتردد في خطوات مماثلة حتى اليوم، وانتهت تلك الحقبة التي كانت "إسرائيل" تعتبر فيها مقدساً في أوروبا لا يمس، وتحصل على تعاطف شعبي قبل الحكومي. أصبح ذلك الكيان اليوم رمزاً لكل ما هو مرفوض لدى الإنسان الأوروبي، ولعل القادم أكبر، وربما نشهد صدامات علنية دبلوماسية وربما تجارية بين دول أوروبا والكيان الصهيوني.
مع مطلع العام الجديد استجمعت القوى المؤيدة لـ"إسرائيل" في السويد قواها، وقررت خوض معركة تحاول فيها استعادة نفوذ غابر، وبدأت في شن هجمة إعلامية على وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم. وفالستروم هذه وزيرة لم تترك فرصة لمهاجمة سياسة إسرائيل ضد الفلسطينيين إلا واستغلتها، ووصلت بها الجرأة إلى الربط الصريح بين تفجيرات باريس والغضب المتراكم الناتج عن القمع الصهيوني للفلسطينيين، وأتبعت ذلك بالتصريح الذي قصم ظهر التحمل الإسرائيلي عندما طالبت بالتحقيق في عمليات القتل التي ينفذها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين في موجة هجمات السكاكين الاخيرة، حيث ألمحت إلى أن بعض تلك العمليات قد تكون خارج إطار القانون.
هنا قررت قوى دعم "إسرائيل" التحرك، فنبشت في ماضي فالستروم فلم تجد شيئاً يستحق في تاريخ هذه السياسية التي تحظى باحترام واسع. الهفوة التي تمكنت من الوصول إليها كان حصول الوزيرة على عقد شقة حكومية من دون أن تلتزم بالدور في الانتظار. انكشف الأمر لاحقاً واتضح أن فالستروم حصلت على عقد مؤقت من شركة السكن الحكومية مرتبط باضطرارها للانتقال للسكن في ستوكهولم بعد توليها وزارة الخارجية، ولا يمكنها بالطبع انتظار الدور الذي قد يمتد لحوالي 15 عاماً. وبغض النظر عن التفاصيل الفنية فإن اللوبي الصهيوني هنا تمكن من تحريك تقارير صحفية ومقالات عدة تسببت في تراجع شعبية فالستروم، لكنها انتهت فعلياً إلى لا شيء. ما تزال فالستروم قوية ومصممة على مواصلة تصريحاتها، ولن تمر أسابيع قبل أن نسمع عن أزمة جديدة بين السويد وبين "إسرائيل".
ويمكن الاستطراد هما بالقول إن فالستروم أثارت غضب دولة عربية مهمة هي السعودية عندما انتقدت الحكم على المدون رائف بدوي.
وعودة إلى "إسرائيل"، فلا يبدو أن مشاكلها السويدية والأوروبية محصورة في فالستروم ومن يماثلها، فالواقع أن الحكومة السويدية الحالية تحتوي وزيرين شابين تعرض أحدهما في ماضيه للاعتقال في "إسرائيل" عندما كان على متن سفينة مرمرة الشهيرة وبعد عملية اقتحامها، أما الآخر فتعرض قبل سنوات للضرب والاعتقال من قبل جيش الاحتلال عندما كان يشارك مع متضامنين أوروبيين في مظاهرة ضد الجدار العازل. اما وزير الدفاع السويدي فقد كان رئيس لجنة القدس في برلمان السويد. الحكومة بمجملها مشحونة بالكامل ضد سياسة الاحتلال، وقد اعترفت بالدولة الفلسطينية بعد أسابيع من تشكيلها.
وفي خضم الهجوم على فالستروم ومحاولات تحطيمها إعلامياً جاءت تصريحات الحكومة الفرنسية التي تضع "إسرائيل" أمام احتمال اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية إذا لم يحصل تطور سريع في جهود السلام. قبل أسابيع فقط كان الاتحاد الأوروبي يقر إجراءات عقابية قاسية بحق منتجات المستوطنات كان من بينها وضع ملصقات مميزة على تلك المنتجات، ولا حاجة للقول إن وضع تلك الملصقات يعني فعليا تدمير فرص بيعها في السوق الأوروبي الذي يستجيب جزء كبير من مستهلكيه لدعوات مقاطعة منتجات المستوطنات. وحتى تكتمل الصورة فلا ضير من التذكير بأن سلسلة برلمانات أوروبية -بينها البريطاني- أقرت توصيات لحكوماتها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
القادم كما هو واضح أكبر، فالشحن تجاه سياسة الاحتلال متصاعد حتى بين أوساط اليمين الأوروبي، فرغم تصاعد مشاعر العداء للعرب على خلفية العمليات الإرهابية والهجرة وبسبب المجازر في سوريا إلا أن الرأي العام هنا يفصل بشكل تام بين رؤيته للعرب وموقفه من الاحتلال. بل ويفصل بشكل تام بين ماضي اليهود في أوروبا وحاضرهم في فلسطين. قد ترى لوحات ومعارض تتحدث عن معسكرات الاعتقال النازية (أوشوتز) حتى في مدارس في قرى ريفية في السويد، لكن الطلبة الذين يرفضون المحرقة ضد اليهود يرفضون كذلك أن يتم ممارسة القمع ضد الفلسطينيين تحت ذريعة تلك المحرقة.
يبدو أن الأوروبيين خلال الأعوام الماضية قد تحرروا من عقدة الذنب إزاء اليهود، خصوصاً بعد جهود تراكمية امتدت لعقود بذلها رواد عرب هاجروا إلى أوروبا وعملوا على التوعية بالقضية الفلسطينية وبعد جهود بذلها مفكرون أوروبيون مميزون. لاشك كذلك أن ثورة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ساعدت في ذلك، وها نحن هنا اليوم: حجم الاستياء من "إسرائيل" ما عاد ممكناً تصريفه دون مردود سياسي وإجراءات واضحة.
إذاً، وبحسب الأجواء السائدة، وخصوصاً إذا بدأ عدوان صهيوني جديد على غزة، فإن من المتوقع أن نشهد المزيد من التوتر والصدامات بين حلفاء الأمس أفرقاء اليوم، وخصوصاً في ظل حكومات يمينية مثل حكومة نتنياهو، أما الاحتمال الأكثر إثارة فهو غير مستبعد أبداً، وقد يبدأ بفرض حظر على تصدير بعض المعدات العسكرية للكيان الصهيوني، وقد يصل إلى عقوبات تجارية يعلنها الاتحاد الأوروبي مجتمعاً أو عدد من الدول الأوروبية كلاً على حدة.
علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد