الانتخابات والخلاص "الفرداني"
عندما فازت القائمة الإسلامية، في الانتخابات الطلابية في الجامعة الأردنية، العام 1990، كان فوزا غير مسبوق، ولا ملحوق. بنسبة تقارب الـ 95 % من المقاعد، يومها قال طالب "إسلامي" في كلية الهندسة، إنّ هذا الفوز هو المسمار الأخير في نعش اليسار. أخذت صحيفة "شيحان"
- التي كانت تفوق اليوميات حينها توزيعا- هذه المقولة ووضعتها عنوانا رئيسا على صفحتها الأولى. كان هذا الفوز، امتدادا لزخم الفوز الذي حققه "الإخوان المسلمون" في العام السابق في الانتخابات النيابية.
اتضح لاحقا أنّ العملية الديمقراطية كانت مقدمة رئيسة لتراجع الأحزاب بأنواعها، ومكانتها عند الجمهور. ولتراجع مجمل الحقبة الحزبية، ومجمل مرحلة البحث عن خلاص جماعي، من خلال أفكار، وأيديولوجيات تهمّش الفرد لصالح المجموع. التحول في الأردن، كان في جزء منه ذا خصوصية محلية، وفي جزء آخر هو في سياق تحولات عربية وعالمية أوسع. ضعفت الأحزاب – وخصوصا اليسارية والقومية في الأردن- لأسباب منها أنّها لم تحسن التكيف مع العلنية، والهامش الأوسع للحركة، وشهدت انقسامات، وانشقاقات، وبرزت فيها خلافات من أنواع مختلفة، وتكشفت للأعضاء ثغرات، وأخطاء، ومعالم فساد كانت غير معروفة في زمن السرية. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ الكادر الطلابي اليساري، الذي كان يقود الجامعة الأردنية نحو عشرة أعوام، ترك الحياة الحزبية كلها، نتيجة لتلك الخلافات، ولِما تكشّف. ولم تكن الحركة الإسلامية محصنة تماما، وإن كانت بوضع أفضل نسبيا.
لو قمنا بدراسة مراكز أبحاث، وجمعيات عمل أهلية، خصوصا ما ارتبط منها بالحريات العامة والشخصية، لوجدنا أنّ عددا لا بأس به منها قد أسسها حزبيون سابقون.
في الجامعة الأردنية نفسها، برزت منتصف التسعينيات، ظاهرة كان يمكن أن تتطور كثيرا، هي ظاهرة الطلبة المستقلين (حقا)، حيث شكلوا كتلا طلابية، أصبحت القوة الثانية في الجامعة (بعد الإخوان). ولكن هذه الظاهرة انتهت سريعا، وبرزت العشائرية كقوة منافسة.
إذا كان قانون الصوت الواحد، والسياسات الحكومية، قد لعبا دورا إضافيا في إضعاف الحياة السياسية الحزبية؛ فإنّ تراجع الأيديولوجيا عالميا، وعربيا، بانهيار الاتحاد السوفياتي، وبسبب هزيمة العراق، وبدء عملية السلام العربية – الإسرائيلية، والعولمة، وانتصار السوق الحرة، قد أدت لبروز المجتمع المدني بديلا.
تراجع أفكار الأيديولوجيا والأحزاب، ورفض فكرة الخلاص الجماعي، من خلال نظريات جامعة لأمم ودول، هو اتجاه عالمي عام، والبديل هو التركيز على الأفراد والأقليات، ومعطيات عديدة متنوعة، بعيدا عن إذابة الفرد والمجموعات لصالح خلاص جماعي.
لم تتطور حركات المجتمع المدني فعليا، لأسباب من أبرزها محاولات منظمات المجتمع المدني الدولي الأجنبية، بما لها من ارتباطات بحكومات بلادها، ممارسة نوع من "التبشير الجديد"، بتقديم تمويل لمنظمات المجتمع المدني الناشئة، وبالتالي تحديد أجندات هذه المنظمات، بدرجة أو أخرى، وهو ما أسهم في تحويلها لنوع من "البزنس"، وإفقادها التأييد والالتفاف الشعبيين، وبعدها الرسالي. ولاحقا وبديلا عن "التمويل الأجنبي" برز نوع من التحالف، أو التبعية، بين بعض هذه المنظمات، والحكومة، ما أدى إلى إضعاف فرص تطور مجتمع مدني حقيقي، يركز على حقوق الأفراد، والمواطنة. وبسبب الفراغين "الحزبي، والمدني" ولأسباب أخرى، انتعشت الهويات التقليدية العشائرية، والجهوية، وبرزت ظواهر المال السياسي. وهكذا تراجعت، وتشظت الأحزاب، ذات الفكر الشمولي (بما في ذلك وبدرجة أقل الحركة الإسلامية لأسباب مختلفة)، ولكن المجتمع المدني الذي يركز على حقوق الأفراد، لم يتقدم.
في حالة بروز قوى، وحركات قادرة على تطوير تصور لحقوق الأفراد، والمواطنة في إطار إصلاح الدول، وبنائها، بمعزل عن الحكومات، والتمويل الأجنبي، والجهوية، فإنها ستكون قادرة على تقديم مشهد سياسي جديد. هذا يتطلب بيئة قانونية مختلفة، ويتطلب مراجعة حقيقية، لسبل عمل منظمات المجتمع المدني، وخصوصا امتداداتها وعلاقاتها الخارجية، وتحالفاتها الداخلية الحكومية والشعبية.