الاستقرار بنكهة عرفية

الاستقرار بنكهة عرفية
الرابط المختصر

يثير قانون منع الجرائم للعام 1954، في الأردن، عاصفةً من الجدل حول دستوريته وضرورة وجوده، لما يمنحه من صلاحيات موسعة للحكام الإداريين في اتخاذ تدابير احترازية مقيدة للحريات لعل أكثرها إثارة للنقد هي فرض الحبس أو ما يعرف بالتوقيف الإداري.

يرى حقوقيون ومعهم مؤسسات حقوقية أن هذا القانون يمثّل انتقاصاً من الضمانات والحقوق الدستورية ومساساً صارخاً بها، وأهمها الحق في الحرية الشخصية والحق في التنقل، ويشكل اعتداءً على صلاحيات السلطة القضائية، وانتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات. لأنه يسمح للحاكم الإداري (المحافظ أو المتصرف) بأداء أعمال هي من اختصاص الادعاء العام، أساساً، وأهمها التحقيق والتوقيف.

وقد طالب المركز الوطني لحقوق الإنسان مراراً وتكراراً بإلغاء القانون، ووثق عدداً كبيراً من قرارات التوقيف الإداري تصل إلى معدل سنوي يناهز 12 ألف حالة سنوياً يتراوح مدة كل منها من يوم أو يومين إلى أسبوعين بالمعدل، ومنها ما يستمر سنواتٍ طوال.

ويمنح قانون منع الجرائم الصلاحية للحاكم الإداري بالتحقيق مع من يرتئي أنه يشكّل خطراً على المجتمع أو يشتبه بأنه قد يرتكب جريمة ما، من دون تحديد أي معايير لهذا التحديد أو الاشتباه، وأعطاه الحق باتخاذ جملة من التدابير الاحترازية مثل توقيع تعهد أو تقديم كفالة لم يحدد القانون سقفاً لها أو معياراً لقبولها أو رفضها، وفي حال عدم تقديمها أعطاه صلاحيات مطلقة في إصدار قرار بالحبس من غير تحديد مدة الحبس، ما يشكل بالفعل سلطة مطلقة تفوق السلطات الممنوحة للقاضي أو المدعي العام في القضايا الجزائية.

تخضع قرارات التوقيف القضائي للطعن أمام المحاكم الجزائية مقابل رسوم رمزية، بينما يحتاج الطعن بقرار التوقيف الإداري إلى رسوم باهظة، ولا يقبل إلا أمام المحكمة الإدارية التي ينحصر تواجدها في العاصمة، وتتطلب الطعونات إجراءات معقدة ومتخصصة، ولا تقام الدعوى إلا من خلال محام أستاذ لا تقل فترة ممارسته للمهنة عن خمس سنوات. مما يجعل الطعن غير متاحٍ، عملياً، لغالبية المواطنين.

من واقع الممارسات يتجاوز الحكام الإداريون الصلاحيات الممنوحة لهم على اتساعها فيقومون بالتغول على السلطات القضائية من خلال فرض التوقيف الإداري على أشخاص قرر الادعاء العام إخلاء سبيلهم بالكفالة، أو يقومون بفرضه على أشخاص أنهوا فترة الحبس أو الاعتقال الذي قررته المحاكم، وكذلك بالتعدي على مبادئ استقرت عليها العدالة وأهمها مبدأ افتراض البراءة، وعدم جواز معاقبة الشخص عن الجرم نفسه مرتين.

ويُفرض التوقيف الإداري بحجة حماية النساء المهددات بالقتل بداعي الشرف إلى فترات تتجاوز سنوات، رغم أن القانون الذي يستندون له في قراراتهم لا يمنحهم السلطة بفرض التوقيف لأجل الحماية، ولا يسمح باتخاذ التدابير الاحترازية ضد الضحية، لكنهم يتذرعون بأن الحق في الحياة أولى بالحماية من الحق في الحرية، معددين أمثلة لحالات طلبت فيها النساء إيداعهن في مراكز الإصلاح خوفاً على حياتهن، غير ملتفتين إلى أن المسؤولية في حماية الحرية والحياة تقع على عاتق الدولة، فلا يجوز أن نفرض على المرأة المعرضة للتهديد أن تختار بين حياتها أو حريتها.

في الجهة الأخرى، يدافع مؤيدو القانون عن دوره في حفظ الأمن والاستقرار، فيرونه عاملاً رئيسياً في حماية المجتمع بما له من خصوصية تجعل من وجود القانون ضرورة لا غنى عنها، إذ يتصدى -حسب رأيهم- لسلوكيات اجتماعية مستمدة من الأعراف مثل الثأر، ويرونه السبيل الوحيد للتعامل مع قضايا تمس العرض بشكل سري يسمح بالحفاظ على الأسرة وحياة النساء المتورطات بها.

لا يُنكر المؤيدون طبيعته العرفية، بل يقرّون أن تفعيله القانون -الذي لم يجر عليه تعديل منذ أكثر من ستين عاماً- جاء على إثر إلغاء الأحكام العرفية في العام 1989، ويستخفون بأهمية مساسه بالحقوق الدستورية معتبرين أن المنظور الأمني هو الأولى بالحماية، ويذهب بعضهم للقول إن غياب القانون سيؤدي إلى انتشار الجريمة والفوضى.

إن صح طرحهم، فلابدّ من التساؤل عن أي نوع من المؤسسات تلك التي نفاخر بها، فهل تعد المنظومة الأمنية والقضائية هشة لدرجة أنها تحتاج للتغول على القانون والدستور من أجل فرض الاستقرار؟ والتساؤل كذلك عن نجاعة برامج الإصلاح والتأهيل المطبقة.

نحتاج حواراً وطنياً يضم الجهات ذات العلاقة للوصول إلى حل مستدام يكفل منظومة تشريعية وإدارية تتواءم مع الدستور والمعايير الدولية وتحافظ على أمن المجتمع في الوقت ذاته. وربما لا يكون الحل بإلغاء القانون بشكلٍ مفاجئ، إنما بإصلاح النظام القائم تدريجياً من خلال تعديل القانون لحصر صلاحيات الحاكم الإداري باتخاذ تدابير غير سالبة للحرية بحدود ما يلزم لأداء دوره الاجتماعي والتنموي المتعلق بالقضايا الحساسة، مع منحه صلاحية التنسيب بأية تدابير مقيدة  يتطلبها الوضع الأمني لقاضٍ مختصٍ ينص القانون على اختصاصه النظر بهذه القضايا، ووضع ضوابط وسقوف لصلاحياته، وإخضاع أي قرار لرقابة القضاء أسوة بقرارات التوقيف القضائي.

ما يحمي الأمن والاستقرار هو سيادة القانون والالتزام بالدستور، وكل ادعاء بغير ذلك من شأنه خلق حالة من الذعر غير المبرر، ويعدّ إهانة لمؤسساتنا التي نعتز ونثق بها.

 

  • هديل عبد العزيز: ناشطة حقوقية. عضو مؤسس والمديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية.
أضف تعليقك