الاستثمار وكرامة الإنسان

الاستثمار وكرامة الإنسان

 

تدفعنا النتائج التي وصل إليها، منذ أيام، إضراب العاملين في شركة "الصافي لصناعة الألبسة في مادبا"، وما حدث قبلها مع العاملين في "شركة ميناء الحاويات" في العقبة نهاية العام الماضي، إلى فتح ملف مكانة حقوق العاملين وشروط العمل المرضية والعادلة ضمن سياسات تشجيع الاستثمار، بالنظر إلى الإجراءات التي اتخذت بحق العاملين ونشطائهم النقابيين من قبل الحكومة وأجهزتها المختلفة مع العاملين في الشركتين ولجانهم النقابية، وشملت اعتقال بعضهم.

 

تشير هذه المعطيات إلى أن صناع السياسة والقرار يتناسون أن العامل الرئيسي للاستقرار بمختلف أبعاده ومكوناته يتمثل في تمكين المواطنين من التمتع بحقوقهم الإنسانية الأساسية، التي تتضمن الحق في العمل وفق شروط عمل عادلة ومرضية، وأن غياب هذه الشروط يهدد الأمن والاستقرار بالضرورة. وضعف هذه المعايير هو الذي فجّر المنطقة العربية، مؤخراً، على الاحتمالات، كافةً، ولا نعلم مدياتها حتى اللحظة، لكنها لا تبشر بالخير.

 

لسنا بحاجة للتذكير أن أحد أهم أسباب عدم استقرار المنطقة يأتي من تراجع معايير الحياة، والناجم بشكل أساسي عن تراجع شروط العمل فيها، وهو ما تؤكده العديد من التقارير القديمة والحديثة، فقد أشار التقرير السنوي الذي صدر عن "الاتحاد الدولي للنقابات العمالية"، قبل أسابيع، أن شروط العمل في المنطقة هي الأسوأ مقارنة مع باقي دول العالم.

 

لا زالت السياسات الاقتصادية بمختلف أبعادها، تدفع باتجاه مزيد من الضغط على الفئات المهمشة أصلاً، وتوسّع رقعة المهمشين، مستندة إلى قوة استخدام السلطة لدى أصحاب المصلحة في استمرار تنفيذ هذه السياسات، على حساب فئات اجتماعية ضعيفة لا تقوى على مواجهة هذه السياسات والمستفيدين منها، مكتفية بالصراخ في مواقع العمل المختلفة، بعد حرمانها من التنظيم النقابي الحقيقي والمستقل.

 

نحن بحاجة إلى جذب الاستثمار، وتشجيع رجال الأعمال على التوسع به، من أجل تشغيل أكبر عدد ممكن من المتعطلين عن العمل، لكن هذه السياسات يجب أن تضمن الحدود الدنيا من معايير العمل اللائقة، وأقلها أجور ورواتب تكفي لتغطية متطلبات الحياة الأساسية (خط الفقر)، لذلك، فإن على سياسات الاستثمار وتشجيعه، العمل على تقليص الفجوة بين مستويات الأجور المنخفضة لغالبية العاملين في الأردن، وبين متطلبات الخروج من تحت خط الفقر (على الأقل)، وهذا يبدأ بمراجعة عامة، وعلى وجه الخصوص، الحد الأدنى للأجور الذي لا يرقى إلى نصف خط الفقر للأسرة المعيارية.

 

ويجري تقديم المستوى المتدني من شروط العمل الأخرى، خاصة فيما يتعلق بشروط الصحة والسلامة المهنية، باعتباره ميزات نسبية (تنافسية) لتشجيع رجال الأعمال على الاستثمار بمستوياتها الحالية، رغم أن أقل ما يقال عنها، إنها سياسات اقتصادية منحازة اجتماعياً ضد مصالح الغالبية الكبيرة من المواطنين، وهي تحرمهم من كرامتهم. ولأن جوهر حقوق الإنسان هو المحافظة على كرامته، فإن غياب شروط العمل المرضية والعادلة، يمس كرامة الإنسان في الصميم.

 

من شأن هكذا سياسات اقتصادية أن تهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي، لأن الناس لا يمكنهم أن يستمروا في احتمال مستويات معيشية لا توفر لهم الحد الأدنى من العيش الكريم، والتاريخ يثبت أن حرمانهم ذلك هو المحرك الأساسي لغالبية التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في العالم.

 

أحمد محمد عوض: باحث ومدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية.

 

 

أضف تعليقك