الإسلام حين يفقد مشروعه الاجتماعي
تسود رواية واحدة بأنّ أهل الجزيرة العربية جميعهم قد آمنوا بالإسلام، ويرفض المتدينون –عموماً- النظر إلى الدعوة المحمدية بوصفها مشروعاً اجتماعياً/ سياسياً توافق عليه كثيرون لم يعتنقوا الدين الجديد، إنما عقدوا تسوية تقضي بدفع الصدقة مقابل حمايتهم، وهي الصيغة التي عرضَها عليهم النبي محمد ورضوا بها.
لم تُفرض "الأسلمة" كما يريد البعض تصويره، ويمكننا بهذه النظرة فهْم ما أُشكل علينا من وقائع تاريخية تتعلق بنشوء الإسلام، وتجديد التسوية في زماننا الحالي لتحقيق نهضة عربية يكون الإسلام رافعةً لها لا عبئاً عليها.
بحلول الشهر المقبل تمرّ الذكرى الثانية على رحيل الباحث الفلسطيني المبدع إلياس شوفاني، ونقلّب معه كتابه "حروب الردة"، وهو النسخة العربية من أطروحته في التاريخ، التي نال عنها شهادة الدكتوراه من جامعة برنستون عام 1968.
يقدّم شوفاني دراسةً نقديةً مقارنةً لجميع الروايات الإسلامية والغربية عن حركة "الردّة"، ليصل ببحثه النزيه والمنصف إلى خلاصات ربما تساهم في فهم هذه اللحظة الحالكة التي نعيش، إذ لم يؤوّل أي من الصحابة آيةً قرآنية أو حديثاً نبوياً لتبرير وجهة نظره، عقب وفاة محمد، عند اختلافهم حول الطريقة الأمثل في التعامل مع الخارجين على السلطة القائمة، وكان نقاشهم برمته نقاشاً سياسياً انتهى بالموافقة على رؤية الخليفة أبي بكر بمقاتلتهم.
ويجدر التذكير أنه بالطريقة نفسها التي تجادل المسلمون بها بسبب "انشقاق" القبائل، كان تناظرهم لاختيار خليفة النبي، فلم يورد أحدهم نصاً دينياً لإثبات رأيه، ويٌحتمل أن هذا النهج استمر حتى مقتل عثمان، ومنذ ذلك الوقت بدأ توظيف آيات القرأن والسنة النبوية لأغراض وأجندات سياسية.
فقهاء ومؤرخون، في فترة متأخرة، أسبغوا أيديولوجيتهم على الأحداث، فما ترجحه المصادر أن معظم قبائل الجزيرة اتفقت مع دولة المدينة المنورة على دفع الصدقة من أجل تأمين الحماية لهم في حال تعرضهم لغزو خارجي، وبذلك هم لم يرتدوا لاحقاً ويهجروا ديناً اختاروه، بل إنهم نكثواً عهداً أو اتفاقية.
بقي الناس على أديانهم، لكنهم ارتضوا "دولة" الإسلام، التي أسست جيشاً صغيراً بجنود تدفع إليهم رواتب ثابتة، لصد عدوان القبائل على بعضها بعضاً، ومنها قبيلة طيئ التي تحالفت مع المسلمين في مواجهة قبيلة أسد، على سبيل المثال.
جرى توقيع اتفاقيات عدةّ مع قبائل نجد وتهامة وشمال الجزيرة، فيما تشير المراجع إلى دخول مدن ثلاث؛ مكة، والمدينة، والطائف في الإسلام، على تنوع أسباب دخولها فيه، فما يسوقه شوفاني في "حروب الردة" حول الصراع بين مكة والمدينة- بين محمد وزعماء قريش- يؤشر على تفاهمٍ تاريخيٍ يضمن مصالح المكيين مقابل دعمهم لخيار دولة الإسلام.
هذه الفئة التي أسلمت يوم فتح مكة استحوذت على كامل الغنائم في الغزوة الأولى التي شاركت فيها، وهي غزوة حنين، وكانت أيضاً الداعم الرئيسي لمبايعة خليفة من قريش، رافضين أن يذهب الحكْم إلى الأنصار، الذين بدورهم لم يشاركوا فيما سميت "حروب الردة" احتجاجاً منهم على احتكار المكيين للسلطة، ما قد يستغرب منه الكثير.
أعود إلى ما انتهى إليه إلياس شوفاني بأن القبائل جرى إخضاعها للدولة مرة أخرى؛ أي أنها عادت إلى دفع المال – الصدقة- مقابل حمايتها، وبذلك يتجلى معنى "الدخول إلى الإسلام" عبر الموافقة عليه مشروعاً يبني البلاد، لا إيماناً يقيد العباد.
· محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.