الإسلاميون والتنافس على السلطة

الإسلاميون والتنافس على السلطة
الرابط المختصر

مسألة التنافس على السلطة بحاجة لتجلية وتوضيح، وبحث معمق إذ أن هناك خيوطا دقيقة بين كثير من المعاني والقيم في هذا المضمار حيث يكاد يختفي اليقين بين الخيط الأبيض والأسود من الفجر، في عالمنا العربي على وجه الخصوص، في ظل عدم نضوج التجربة الديمقراطية وعدم رسوخها، وضعف جذورها وقوائهما، فهي لم تستو على سوقها ولم تؤت ثمارها، وما زالت أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع والممارسة.

الإسلاميون معنيون أولاً بتأصيل ثقافة السلطة، وتحرير معانيها ومضمونها وفلسفتها، وطرق إسنادها، والوقوف على مصدر شرعيتها وكيفية ممارستها، وإدراك دفع ضريبتها وكلفة الاحتفاظ بها، قبل خوض غمار المنافسة عليها، والانغماس في معمعتها، وتذوق حلاوتها ومرارتها.

التنافس على السلطة كان -وما زال- من أكثر أسباب الخلاف في الأمة، ومن أكثر عوامل القتل وسفك الدماء وإثارة الفتن والانقسامات في مجتمعاتنا عبر التاريخ، وقد بدأ الصراع الدموي على السلطة مبكراً منذ عهد الصحابة، عندما تفجرت الفتنة في زمن (عثمان بن عفان) الخليفة الراشد الثالث، وامتدت إلى زمن (علي بن أبي طالب) الخليفة الراشد الرابع، وما تفرع عن ذلك من خلاف مع الخوارج ثم مع معاوية، وانفتح باب الخلاف على السلطة ولم يتوقف حتى هذه اللحظة.

نحن أمام محطة فارقة في تاريخ الأمة، إذ ينبغي على جميع القوى والأطراف السياسية أن تدرك بشكل جمعي طبيعة المشكلة ومدى عمقها وارتباطها بالموروث الثقافي، والذي أصل الموضوع ارتباط السلطة بالقوة والقهر والغلبة، وما نتج حول هذا الشأن من فقه سياسي عريض يقوم على تسويغ استعمال القوة في سبيل الاستئثار بالسلطة والاحتفاظ بالنفوذ وشرعية القرار المنقوصة.
في هذا السياق يجب أن تعلم كل القوى السياسية وفي مقدمتها القوى والأحزاب السياسية الإسلامية أن التنافس على السلطة سيكون مفتاحاً للخصومة، مهما كانت درجة القربى، ومهما كانت درجات التدين والتقوى، ومهما ارتفع منسوب الوطنية والإخلاص القومي والانتماء العروبي، فعندما يحتدم التنافس على السلطة تذوب الفوارق القائمة على الكفاءة والقوة والأمانة، ويتضاءل الاعتماد على المعايير والمقاييس السليمة ويرتفع شعار (ما في أحد أحسن من أحد)...!

عندما يحتدم التنافس المحموم على السلطة، سيجد الإسلاميون أنفسهم أمام نوع من الخصومة الشديدة المتوقعة بشكل حتمي، لم يكونوا يجدونها سابقاً عندما كان الحديث في باب الوعظ والهداية، وعندما كان النشاط مقتصراً على تقديم الخدمة للمحتاجين، وإسداء النصيحة للمخطئين، والإسهام بشؤون الرعاية والعناية والتربية والتعليم والصحة وما شابه.

نحن بحاجة ماسة إلى إرساء ثقافة جديدة، والبدء بصياغة حياة سياسية جديدة، وبناء أجيال جديدة تؤمن بضرورة البحث عن معايير سليمة في اختيار أصحاب السلطة، وترسيخ معاني التنافس الشريف بين المجموعات والقوى السياسية، على قاعدة العدالة والمساواة، والقوانين المحايدة، التي تنفي الانحياز لطرف على طرف، وتمنع استخدام القوة وتحرم اللجوء إلى العنف، مهما بلغت درجة الاختلاف الفكري والسياسي.

ينبغي الوقوف الجمعي على فلسفة «السلطة» أولاً حيث أنها ملك للشعب بأكمله، ولكل مواطن سهم فيها على قدر متساوٍ بين جميع المواطنين، دون أدنى تمييز قائم على الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو المال والثروة، ولا فضل لأحد على أحد إلا بما يحوز من رضا الجماهير وموافقة الأغلبية التي تحدد طريقة الاختيار الأوحد للزعيم والمسؤول.

ثم بعد ذلك يجب ترسيخ مبدأ تداول السلطة، فالاختيار ينبغي أن يكون لمدة محدودة، فلا يملك أحد على الإطلاق الاستئثار بالسلطة على مدى الدهر، ما يحتم الاتفاق على قواعد انتقال السلطة من شخص إلى شخص، ومن مجموعة إلى مجموعة أخرى بطرق سلمية هادئة، يحددها الدستور بشكل قاطع، لا يحتمل معنى اللجوء إلى القوة أو التفكير بالعنف.

هذا يحتم أيضاً التوافق على أصل الرقابة والمحاسبة، لصاحب السلطة الذي تم اختياره من الشعب، بشكل صارم ودائم وفاعل من خلال مجالس منتخبة ممثلة لكل مكونات المجتمع، تحوي أهل العقل والحكمة والتجربة والاختصاص والعلم والقدرة على تحمل هذه المسؤولية مع الاتفاق الحتمي على صلاحيات المسؤول وحقوقه وواجباته بشكل منضبط يمنع الاستبداد، ويحول دون التعسف في استعمال الحق أو التعسف في استخدام السلطة.

الإسلاميون وكافة القوى السياسية يجب أن يتوافقوا وأن يضعوا حداً لتاريخ الدم المسفوح، والاقتتال على السلطة، والالتحاق بالأمم المتحضرة، التي استطاعت أن تنظم هذا الشأن بطريقة دستورية حضارية، قبل الشروع في التنافس بين الأفكار والبرامج والكفاءات.

الدستور