الأفكار لا تموت

الأفكار لا تموت
الرابط المختصر

مساكين وأغبياء معاً أولئك الذين يحاولون مقاومة الفكر ومعاندته، وأكثر غباءً وحمقاً أولئك الذين يحاولون اختصار الفكرة بأشخاصهم، أو أولئك الذين يعانون من مرض تضخم الذات، ويرون أنفسهم أكبر من الفكرة وأكثر أهمية، ويقعون ضحية الإعلام الذي يجيد النفخ والمبالغة، حتى يصبح بعض الأشخاص كالبالونات الطائرة فوق رؤوس الناس، ويتابع بعض الصحافيين بمكر وخبث الزيادة في النفخ حتى يصبح البالون عبارة عن غشاء رقيق جداً ومضغوط، لا يحتاج سوى نقرة دبوس واحدة تجعله أثراً بعد عين.

عندما تكون المعركة بين الأشخاص والأفكار، تكون الجولة دائماً لصالح الأفكار بكل تأكيد، مهما أوتي الأشخاص من غطرسة وسلطة، ومهما بلغت درجة النرجسية لديه، وعبر التاريخ أمثلة كثيرة وعديدة، لمن يبحث عن العبر والدروس، فالأشخاص يموتون دائماً والأفكار لا تموت.

يروى أن أحد حكام الأندلس غضب من العالم الفقيه الأصولي والمحدث المبدع والمتكلم البارع "ابن حزم" بسبب الاختلاف في المواقف السياسية، فهرب ابن حزم فارّاً بروحه، فأمر الحاكم بحرق جميع كتبه ومؤلفاته بعد أن أمر بجمعها في كومة كبيرة وأشعل بها النيران من أجل إشباع غريزة الانتقام لديه بالقضاء على عصارة فكر ابن حزم الذي استمر سنوات طوال في كتابتها بالنسخ باليد والحبر على الالواح والورق المتوافر في ذلك الوقت.

مات الحاكم الأندلسي، ولكن فكر ابن حزم في الفقه والأصول وعلم الكلام والأدب ما زال يدرّس في معظم جامعات العالم، ولا تكاد مسألة علمية في بعض المجالات المعروفة إلاّ ويذكر فيها رأي ابن حزم حتى لو كان مخالفاً لجمهرة العلماء والفقهاء.

لقد أقدمت الكنيسة في العصور الوسطى على حرق العالم "كوبرنيكس" وعلماء آخرين من الذين خالفوا رأيها الذي تزعم أنه دين ومن عند الله، في مسألة دوران الأرض حول الشمس، ولكن النتيجة أن أفكار "كوبرنيكس" ما زالت حية وباقية، ومات من أحرقه، ولا يكاد يعرفه أحد.

لا أهمية للأشخاص إلاّ بما يحملون من فكر، أو عمل دؤوب في خدمة الفكر أو جَهد مميز في ترجمة الأفكار إلى وقائع على الأرض، وتطبيق مقتضياتها عبر الزمان والمكان، وفي تمثل القيم، والفناء في إعلاء شأنها والموت في سبيل حفظها وصيانتها.

من أبشع أنواع التخلف في هذا العصر وفي كل العصور، أن يمارس أحدهم الوصاية على العقول، فيستعمل ما لديه من سلطة لمنع من يتسلط عليهم التعاطي مع الأفكار، أو عدم الاستماع لصاحب الفكرة، أو يعمد إلى تشويه الفكرة أو الطعن بصاحبها تعبيراً عن العجز المستفحل في المناقشة والمحاججة في المضامين والجوهر.

والأمر الأشد بشاعة أن تتم هذه الوصاية وهذا التسلط في بعض الأحزاب السياسية وبعض الجماعات في مرحلة التحرر والنضال ضد الاستبداد والطغيان وقبل وصولهم إلى السلطة، فيكف تكون الحال إذا وصلوا إلى السلطة وتمكنوا من استخدام القوة "لا سمح الله ولا قدّر"، وكيف سيكون تعاملهم مع من يخالفهم الفكر والرأي والدين والمذهب.

الفكر لا ينمو ولا يترعرع إلاّ في جو الحريّة، وما التسلط والكبت والوصاية وضيق الأفق لدى المسؤول- أي مسؤول- إلاّ أشد أعداء الفكر والإبداع، وما كان للتخلف أن يتجذر في بلاد بني يعرب ويسود إلاّ في جو الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات، وتعطيل العقل الجمعي عن الانطلاق في رحاب الفكر والثقافة.

جريمة نكراء تستحق كل أنواع الإدانة والشجب والاستهجان ما يصدر عن بعض القوى السياسية بمنع أفرادها من الاطلاع على فكرة معينة أو عدم التعاطي مع مضمونها، وعدم الاستماع إلى منظريها وعدم الاتصال بهم، فهل يعقل أن يتم مثل هذا الأمر في القرن الواحد والعشرين، وفي عام 2012م، وفي خضم ثورة الربيع العربي.

العرب اليوم

أضف تعليقك