الأحزاب والجامعات في الأردن ... الفرص والتحدّيات

الأحزاب والجامعات
الرابط المختصر

العربي الجديد

يدخل نظام الأنشطة الحزبية في الجامعات الأردنية طور التنفيذ والعمل به نهاية شهر مايو/ أيار الجاري، وفقاً للمعايير التشريعية. وبذلك، يصبح ما كان لعقود طويلة محرّماً وممنوعاً في الجامعات مندوحاً ومشروعاً، بل ومشجّعاً عليه من الإدارات الجامعية والحكومة والمؤسسات الرسمية في الدولة، وهو انتقال مهم ونوعي، نظرياً، مرتبط بإقرار حزمةٍ من التشريعات الجديدة على صعيد الأحزاب وقانون الانتخاب جميعاً، تدفع وتدعو إلى تعزيز اندماج الشباب في العمل الحزبي والسياسي العام. 

من يدخل الجامعات الأردنية اليوم يجد لافتاتٍ عديدة وزعتها الهيئة المستقلة للانتخاب، تشجع الشباب على الانخراط في العمل الحزبي والسياسي. وهنالك أيضاً لافتات في شوارع العاصمة عن دور الشباب في الأحزاب وأهمية وجودهم في البرلمان، وهذه بحدّ ذاتها مؤشّرات واضحة على أنّ هنالك إدراكاً ووعياً جديداً لدى الدولة تجاوز العقلية التقليدية المتخوّفة من انخراط الشباب في المجال العام والعمل السياسي، بل وتصل الأمور في بعض أنظمة التأديب في أغلب الجامعات الأردنية إلى معاقبة من يمارس العمل الحزبي في الجامعات، في المراحل السابقة، وهي الأنظمة التي أوجب نظام الأنشطة الحزبية، الذي أقرّته الحكومة، على الجامعات تغييرها وتعديلها بما يتواءم مع التوجّه الجديد للدولة الأردنية.

صحيحٌ أنّ النظام الجديد تعرّض لانتقاداتٍ ونقد مشروع، في أغلبه، من القوى الطلابية والسياسية، لأنّه يضع في يدي عمداء شؤون الطلبة صلاحياتٍ واسعة تمكّنهم من إيقاف أي نشاطٍ حزبيٍّ طلابيٍّ ومنعه، وأنّه وضع محدّدات كثيرة للأنشطة الحزبية، إلا أنّ ذلك لا ينفي أن النظام والتوجهات الجديدة وكسر الجدران الثقافية والنفسية بين الطلاب والأحزاب خطوة كبيرة إلى الأمام. 

قناعات مترسّخة متخوّفة من العمل الحزبي في الثقافة الاجتماعية، تحتاج إلى براهين وأدلة ودلائل

شارك كاتب هذه السطور في أربع ورشات عمل نظمتها جامعات أردنية كبرى والهيئة المستقلة للانتخاب ووزارتا التعليم العالي والشؤون السياسية ومعهد السياسة والمجتمع الذي قدّم تقارير وأوراق سياسيات معمّقة للمسؤولين مرتبطة بتلك الورشات، وكان واضحاً في تلك الفعاليات جميعاً أن رسالة الدولة إلى الجامعات أن حرّكوا المياه الراكدة وافتحوا الأبواب للطلاب للعمل العام، لأنّه بحدّ ذاته مهم في دمج الطلاب في الشؤون الوطنية وتدربيهم على الحياة العامة والنقاش الوطني بديلاً عن الاهتمامات الجهوية والإقليمية، التي أدّت إلى تصاعد العنف الجامعي وتراجع الثقافة الوطنية لدى نسبة كبيرة من طلابنا الجامعيين. 

على الطرف المقابل، أثار استطلاع رأي نشره مركز الدراسات الاستراتيجية نقاشاً كبيراً في الأوساط النخبوية والسياسية الأردنية، إذ كشف عن رغبة فقط 1% من الأردنيين في الدخول إلى الأحزاب السياسية، وعن نسبة أكثر قليلاً فقط سمعت عن أحزابٍ جديدة، وهو الأمر الذي رأت فيه أوساط سياسية فشلاً وعدم نجاعة في الحملة الحكومية الكبيرة لتعزيز العمل الحزبي والمشاركة الحزبية لدى المواطنين، بينما رأى آخرون أنّ النسبة هذه منطقية ومعقولة، حتى مقارنة بديمقراطيات كبيرة في العالم، إذ إن من يرغبون في ممارسة العمل الحزبي والتفرّغ له، في العادة، نسبة قليلة ومحدودة جداً، وقوة الأحزاب لا تكون بعدد الاعضاء، بل في القاعدة الجماهيرية والانتخابية والحملات الانتخابية المقنعة.

ومن الطبيعي الاعتراف بأنّ من المبكّر جداً فعلاً قياس مدى إيمان الناس واقتناعهم بالتجربة الحزبية الجديدة، لأنّ الوقت قصير جداً ما بين بدء الحراك الحزبي الحالي والاستطلاعات القائمة، ولا يسمح بتغييرات ثقافية ومجتمعية كبيرة، بخاصة أنّ هنالك قناعات مترسخة متخوّفة من العمل الحزبي في الثقافة الاجتماعية، تحتاج إلى براهين وأدلة ودلائل من الواقع ومرحلة من الوقت حتى تتكسّر وتبدأ قناعات جديدة مختلفة بالبروز، وهذا لا يتم عبر الوعود أو الكلام المعسول، بل من خلال التطبيق العملي، عندما يرى المواطنون بأمّ أعينهم أنّ التجربة الحزبية فعلاً بدأت تُحدث فرقاً، وأنّ نيات الدولة بتوسيع المشاركة السياسية والانفتاح السياسي تُرجمت عملياً، بخلاف القناعات الشعبية التي أصبحت تحيط السياسات والخطابات الحكومية بشكوكٍ عميقة، كما تظهر استطلاعات الرأي نفسها.

مسؤولية إنجاح العمل الحزبي وتطويره وتعزيزه لا تقع على الدولة وحدها، بل هنالك أطراف أخرى مطلوب منها الكثير

الأمر الآخر والمهم أنّ مسؤولية إنجاح العمل الحزبي وتطويره وتعزيزه لا تقع على الدولة وحدها، بل هنالك أطراف أخرى مطلوب منها الكثير، وفي مقدمتها الأحزاب، لكن دعونا ننظر إلى الحكومة بدايةً ثم نتجه إلى الآخرين؛ فهل السياسات الحكومية أذابت المخاوف الشعبية وأظهرت "رسائل حسن نوايا" حقيقية تجاه العمل الحزبي؟ الجواب: لا، فالحديث عن الأحزاب والعمل الحزبي وقانوني الأحزاب والانتخاب لم يتواز ولم يتزامن مع خطوات انفتاح سياسي ملحوظة على صعيد الحرّيات العامة وحقوق الإنسان، وهذه من أساسيات فعالية الأحزاب وشروطها، فالأحزاب لا تنمو إلا في مناخ مناسب، وهذا المناخ لم يتوفر!

على النقيض من ذلك، المفارقة الرئيسة أنه في الوقت الذي يتحدّث الأردن عن العملية الحزبية ويقرّ فعلاً تشريعات مهمة ونوعية في مجال الإصلاح السياسي، يتراجع تصنيفه على القوائم الدولية المعتبرة من دولة حرّة جزئياً إلى دولة شمولية، وكأنّ هنالك حالة انفصام سياسي في البلاد (شيزوفرينيا)، خطوات نحو الديمقراطية وخطوات في الاتجاه المقابل، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الموقف المتشدّد من أحزاب المعارضة، ومنها حزب الشراكة والإنقاذ الذي عقد مؤتمراً صحافياً اشتكى فيه من التضييق الأمني ومن الحصار إلى درجة الضغط على الأعضاء الجدد للانسحاب منه، وهو أمر يثير الشكوك بمصداقية العملية الحزبية بأسرها وجدّيتها!

إذاً المطلوب من الحكومات وفق أي وصفة لعملية الدمقرطة وإنبات الأحزاب السياسية خطوات نحو "اللبرلة السياسية"، أي الانفتاح السياسي الذي يفتح الطريق إلى الديمقراطية، بغير ذلك نضحك على أنفسنا ونمارس حركاتٍ بهلوانيةً في الهواء واستنزاف للوقت والجهد والرصيد السياسي للنظام ومصداقيته، وهذا خطير، لأنّ الرصيد أصلاً محدود وبائس، فلا مجال للتلاعب بالمصداقية أكثر من ذلك!

المهم أن يكون هنالك تجذير وتطوير وتوسيع للعملية الحزبية مع مرور الوقت

في المقابل، الأحزاب السياسية هي الأخرى أمام مسؤولية كبيرة في تطوير خطابها السياسي وترشيقه والانتقال إلى الشارع والأزقة، وتبنّي قصص الناس والاشتباك مع مشكلاتهم، والنزول باللغة والخطاب إلى مستوياتٍ تتفاعل مع الهموم اليومية. ومن دون ذلك، سيبقى العمل الحزبي ديكوراً وثانوياً، بلا قيمة حقيقية. والأخطر ظاهرة "تدوير النخب السياسية"، لم نر في أغلب الانتخابات الداخلية التي حدثت حضوراً شبابياً ملحوظاً في القيادة كما هو مأمول، بل إن الوجوه الحزبية القديمة التقليدية والوزراء والنواب والأعيان السابقين هم من عادوا مرة أخرى من بوابة العمل الحزبي!

الأسوأ أن أحزاباً جديدة عديدة استنسخت المشكلة الخطيرة المتمثلة بما أطلقنا عليه، في كتاب "على أعتاب التحوّل: دراسة ميدانية تحليلية لواقع الأحزاب السياسية الأردنية.." (أصدره معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع صندوق الملك عبد الله الثاني) ظاهرة الهرم المقلوب؛ أي تكدّس الجميع في مواقع القيادة، ثم عدد أقل من الأعضاء، وقاعدة جماهيرية تكاد تكون ممسوحة. والمفارقة أن احزاباً عديدة لا تمتلك حقاً أي رسالة أو خطاب أو حضور شعبي تمكّنت من تصويب أوضاعها (الوصول إلى ألف عضو مؤسّس) من خلال العلاقات الاجتماعية، بينما عانت أحزاب أيديولوجية قديمة ومرموقة حتى وصلت إلى عملية التصويب، وهي ظواهر سلبيةٌ، لكنها متوقعة في أي عملية تحوّل وحراك حزبي، وهنالك أمثلة عديدة من دول العالم على هذه الظواهر. 

في المحصلة، لا تأتي الديمقراطية مرّة واحدة، بل تمر بمراحل متقلبة، وترتبط بمتغيّرات عديدة، مثل الثقافة السياسية والاجتماعية ومصداقية العملية السياسية ودرجة انفتاح نخب النظام والمعارضة على صفقة انتقالية. ولسنا أمام نظرية واحدة، بل نظريات في الانتقال الديمقراطي، وتجارب متعدّدة ومتنوعة في دول العالم، لكن المهم أن يكون هنالك تجذير وتطوير وتوسيع للعملية الحزبية مع مرور الوقت.