الآلة وموت الإنسان

الآلة وموت الإنسان
الرابط المختصر

 

يتوقع خبراء أن تتصل عشرات مليارات الأجهزة الإلكترونية عبر العالم في غضون سنوات قليلة نتيجة التطور المتسارع لما يسمى "إنترنت الأشياء Internet of Things"، وسنشهد مزيداً من التطبيقات عليه، إذ ستصدر الثلاجة رسالة إلى المتجر بما ينقصك من مواد غذائية، وتصلك استشارة فورية من الطبيب الذي سيتلقى تحديثاً لبياناتك الصحية من جهاز تثبته برسغك.

 

يبدو عبثاً استحضار المفارقات عن استخدام التكنولوجيا المتطورة في عشرات البلدان، التي تعاني حروباً ومعدلات فقرٍ مرتفعة وتراجع مؤشرات التنمية، فهناك 20 مليون يمني (من أصل 24 مليون عدد السكان) يعيشون تحت خطر الفقر، لكن عدد المستخدمين منهم للأجهزة الخلوية يتجاوز 13 مليوناً.

 

من استطاع ترويج وسائل الاتصال السابقة سينجح، طبعاً، في تزويد معظم سكان المعمورة بـ"سوار" يحمل IP ليغدو كل فردٍ جزءاً من الشبكة العنكوتية، ليتصل من خلاله بجميع الأشياء (من أجهزة وأدوات مؤتمتة)، وتتبادل البيانات فيما بينها وتقوم بوظائفها المنتظمة، التي ستتوسع مع الأيام، من دون الحاجة إلى توليف بشري.

 

مع حلول عام 2025، سيكون هناك إنترنت لا مرئي يدير حياتنا اليومية؛ شركات السيارات ستتابع أعطال مركباتها بعد البيع، المستشفيات والمراكز الصحية تتفقد مرضاها من غير أن تكلفهم عناء زيارتها، والمحلات التجارية والبنوك ستتواصل بأسرع الطرق وأذكاها مع زبائنها، التحكم بالمنازل ومحتوياتها سيكون عن بعد، خطوط الإنتاج في المصانع ستعمل من تلقاء نفسها بدقة وفعالية تفوق إدارة البشر.

 

ولن يكون خافياً استفادة شركات الحماية ودوائر الاستخبارات التي سيتاح لها أحدث تقنيات المراقبة الدائمة وآليات الإنذار عند خرق أي نظام معمول به، ومهما حاولت الشركات المستثمرة في قطاع إننرنت الأشياء ادعاء المحافظة على الخصوصية، إلاّ أن عقدين من استخدام الإنترنت أظهرا انصياعاً شبه تامٍ لأجهزة الأمن من قبل مزودي الاتصالات والشركات التي تسوّق سلعها وخدماتها عبر العالم الافتراضي.

 

يعتقد البعض بوجود تحالف ضمني بين صناعتي الأمن والتكنولوجيا، وبعيداً عن التفاصيل التي تتعلق بخصوصية الاستخدام وقوانين المراقبة، فإن اعتراضات كثيرة تنصب على احتكار عدد من الشركات (لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة) لسوق إنترنت الأشياء، وفي مقدمتها Google  و  Microsoft وغيرها، حيث لا وجود لتنافس حقيقي في قطاع قد تذهب البيانات الضخمة التي يتم جمعها في اتجاهين خطيرين؛ التجسس على نشاطات الأفراد بناء على طلب حكوماتهم، ومضاعفة إمكانية الشركات في مراقبة سلوك المستخدمين للتعرف على عاداتهم الاستهلاكية، وتوظيف البيانات المتوافرة لأغراض ترويجية.

 

المراقبة بأغراضها المتعددة ستتزامن مع الفقدان المضطرد للوظائف بسبب الاعتماد المفرط على التقنيات الحديثة، وتتوقع دراسات أن يفقد نصف الأميركيين وظائفهم في المستقبل القريب، مقابل غياب أي إحصائيات أو معلومات عن تأثير ذلك على منطقتنا، ومعظم دول العالم الثالث، التي تواجه أزمة بطالة رغم استمرار تعيين غير المؤهلين في الوظائف الحكومية!

 

ويبعث على الفضول والريبة تنامي اهتمام أنظمة عربية بالتطبيقات المتزايدة في قطاع إنترنت الأشياء، وبحثها عن فرص للاستثمار به، مع إطلاق مسؤولين ورجال أعمال وعوداً بفتح مجالات جديدة أمام الإبداع والابتكار.

 

الاختلاف في التفاعل مع التكنولوجيا بين العرب والغرب لن يغير حقيقة أن البشرية ستواجه أزمة مركبة، فكلما زاد الترابط بين الأشياء (ـأجهزة وناساً وحيوانات وسلعاً)، وازداد جمعها للبيانات، ومن ثم تحسن مستوى معالجة هذه البيانات من أجل اتخاذ القرار، فإن دور الإنسان سيتضاءل بشكل كبير، وربما يختفي في حال استطاعت الآلة أن تقوم بأدواره المتبقية لليوم، ومنها إصلاح ذاتها بذاتها!

 

إلى ذلك الوقت، فإن الذاكرة الإنسانية ستواصل موتها البطيء، فلا فائدة من تذكّر معظم العمليات التي نمارسها يومياً بعد أن تحلّ الآلة محلنا، وعليه سنفقد جزءاً كبيراً من انفعالاتنا ودهشتنا، وهو ما قد يقلب أهم تعبيراتنا المتوارثة من شعر وسرد ورسم ورقص وغناء.

 

إنّه عالمٌ مجنون، ومستلبٌ لصراعه من أجل الآلة ومعها، ما ينتج على الدوام أشكالاً جديدة من التوحش والاستبداد، ومزيداً من الهيمنة على الفرد وذاكرته.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

 

أضف تعليقك