ارفع رأسك!

ارفع رأسك!
الرابط المختصر

يبدو الإبداع في السياسة، ومع السياسيين، مستحيلاً في كثير من الأحيان؛ ومع ذلك فإن كل تجربة سياسية لا تقود صاحبها إلى إعادة صياغة مفاهيمه الخاصة حول الحياة، ولا تنقله من حقل الأفكار الجاهزة إلى اجتراح موقف خاص، تمثل فشلاً فادحاً، يلقي بظلاله على بلاد بأكملها.

 

ولهذا، فإن الاستعارات العامة من الثقافة والأدب والمقولات الجاهزة، هي في الغالب من المؤشرات المتكررة على الفشل السياسي، وعلى هوة سحيقة تفصل سياسة غير شعبية ومرفوضة عن خطابها المقبول. أو بالأحرى، تمثل محاولة لتغطية فشل السياسة في الإقناع.

 

والأردن الذي "جرب كل شيء"، يواصل مع ذلك تعزيز رصيده في هذا المجال!

 

بدأنا بـ"الأردن أولاً"، ثم ذهبنا إلى "على قدر أهل العزم"، وانتهينا إلى "ارفع رأسك"؟ وهذه كلها مقولات استخدمتها المعارضة في ظل أسوأ محطات عجزها وأزمتها، في التسعينات، ضد الحكومات والسياسات التي أعقبت "وادي عربة". ولا معنى يمكن أن يفهم من انعطافة العقل السياسي في الدولة نحو هذه الشعارات، سوى الاستسلام للأزمة، والذهاب وراء المعارضة في عجزها العميم حتى عن مجرد ابتكار جملة..

 

أنذكر هنا أن "إرفع رأسك"، التي أضحت مجرد عبارة، لها تاريخ..

 

إنها في تاريخها تنتسب لعبقري الإنسانية العظيم بيتهوفن، الذي هو أشد أعداء الأنظمة الملكية والسلالات، ونصير الحكم الجمهوري، قبل أن تنشأ أول جمهورية في أوروبا. وقالها في مناسبة تستحق أن تروى في سياقها..

 

حينما وصل بيتهوفن إلى فيينا، وكانت وقتها قِبلة الموسيقيين، كان قد سبقه إليها الكاتب الألماني المعروف غوته. وكان بيتهوفن شديد الإعجاب به. لكن أمله خاب حينما اكتشف أن غوته يعيش في البلاط ويتملق أهله، فقال عبارته الأخرى الشهيرة المتحسرة: "أواه، كنت أحسبه أمير الشعراء، وإذ به شاعر الأمراء!"..

 

ومع ذلك، بقي بيتهوفن يحب محادثة غوته، ويماشيه؛ وذات يوم بينما كانا يتمشيان في الحدائق الإمبراطورية، اكتشف بيتهوفن أنه يتحدث ويسير لوحده، وأن غوته الذي من المفترض أنه يسمعه ويسير جواره، قد توقف منذ وقت وتخلف عنه، ووقف على جانب الطريق منتظراً ظهور العربة الإمبراطورية التي تناهى صوت علاتها من بعيد.

 

وقف بيتهوفن ينظر إلى غوته ويراقبه..

 

وما أن ظهرت العربة حتى خلع غوته قبعته، وانحتى محيياً الموكب. وبقي كذلك إلى أن غابت العربة، ثم واصل سيرهه ليلحق ببتهوفن. حينها قال له الموسيقار العظيم، الذي كان الموسيقيون قبله يدخلون القصور من الباب الخلفي مع الخدم: "ارفع رأسك يا أخي فأنت عبقري! هؤلاء الذي تنحني لهم تعظمهم السلطة، ويتكاثرون بالتناسل، بينما أنا وأنت نأخذ عظمتنا من عبقريتنا المتفردة. والتاريخ نفسه لا يستطيع أن يجود بغوته ولا ببتهوفن عظيم آخر!"..

 

من المهم القول، إن العقل الذي نقل هذه الحكاية إلى الدراجة العربية، هو مصري.

 

يصف محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" مأساة مصر فيقول أنها ابتليت أول مرة برئيس يقرأ كل شيء لدرجة أنه لم يترك مصر تعيش معه العمر المديد، وآخر لم يكن يقرأ أي شيء على الإطلاق. وذلك الرئيس الذي كان يقرأ كل شيء، جمال عبد الناصر، استعار العبارة حينما طأطأ زميله الضابط المصري رأسه بعد تعرضه للإهانة من الجنود الإنجليز، فقال له: "ارفع رأسك يا أخي، فأنت في مصر!".

 

طبعاً، راجت هذه العبارة في الأردن في التسعينات بصيغة تشير إلى الكرك "ارفع رأسك، فأنت في الكرك!"، نكاية بالحكومة على إثر "ثورة الخبز" المعروفة. وهذا الاستخدام واستعارة جمال عبد الناصر لها مفهومة تماماً، فهي تأتي في السياق الواضح الذي يعود إليه أصل العبارة. ولكنني لا أفهم ما المعنى الذي قصدته السياسة الأردنية مؤخراً حينما لجأت لتكرار العبارة..

 

هل كانت تقصد الفكرة الأساسية التي تعكس موقف بيتهوفن وآراءه السياسية في الحكم، أم ما ذهب إليه جمال عبد الناصر الرافض للتبعية، أم تسعى للانضمام إلى موقف المواطنين الرافض للسياسات الحكومية..

 

أم هي مجرد كلمة قيلت، وتنضم لبقية الكلام الرسمي المعهود الذي لا معنى له!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

أضف تعليقك