إنه "اليوبيل الذهبيّ"، فلنحتفلْ

إنه "اليوبيل الذهبيّ"، فلنحتفلْ

 

تصريحان صريحان واضحان لا يحتملان أيّ سوء فهم، يُجمعان، في تعبيرين متماثلين تماماً، على "أن الشرق الأوسط لن يكون كما عرفناه!" ما يعني أنّ دولاً أساسية في هذا الشرق الأوسط، الوجه العربي منه تحديداً، لن تعود كما كانت عليه من قبل! أما عن مدى دقة هذين التصريحين الصريحين؛ فبإمكاننا الوثوق بالإطار العام الذي يشمل معناهما إذا نظرنا إلى ما آل إليه العراق منذ الغزو الأميركي الغربي قبل عقد وأزيد، وما ستؤول إليه سوريا بعد سنة، أكثر أو أقلّ قليلاً.

 

صحيح أنّ هذا المعنى عُمم خبراً قبل أيام، مرجعه أعلى مصدرين في جهازي المخابرات الأميركية والفرنسية، لكن قراءة مضمونهما قراءة صحيحة لا تستند إلى طبيعة "عمل" الجهازين المذكورين فحسب؛ إذ يكفي الواحد منا التمعن بمجريات الحياة اليومية في العراق وسوريا كي يصادق عليها. ناهيك عمّا يحدث من انزياحات كارثية في كلٍّ من ليبيا واليمن، وليس من باب الاستطراد التنويه، في اللحظة نفسها، إلى مستتبعات ذلك كلّه على "مصير" فلسطين وقضيتها، كركيزة وبؤرة مركزية!

 

أوّل ما يتبادر لمن يعاين جملة ما حدث ويحدث أنّ تقسيماً جديداً لتلك الدول سوف يجري. ما يشبه رسماً متجدداً لـ"سايكس بيكو" بإحداث تعديلات عليه هنا وهناك. غير أنّ هذا ليس مصدر الخشية الأكبر (على أهميته القصوى)، أي التلاعب بخرائط الدول وحدودها السياسية. الخشية تكمن في تفتيت الدولة المحافظة على "وحدتها الجغرافية" السياسية شكلاً وعنواناً، وتفريغها من هويتها الجامعة وملئها بكانتونات تكرّس التقسيم الديني، والطائفي، والمذهبي، والقومي. الخشية من إذابة الصلات اللاحمة الضافرة عبر ضرب الثقافة الوطنية الواحدة الموحدة بالتشكيك في مضمونها، وتكوين مجموعة وحدات صغيرة معزولة، منعزلة، وفقاً لتلك التمايزات، وبذلك تتحوّل الدولة إلى مجموعة "غيتوات" أسوارها ارتفعت داخل الإنسان. وهكذا تصبح "المواطنة"، كمفهوم وواقع حياتي قيد العيش رجونا تحقيقه وإنجاز اكتماله طوال العقود الماضية، مجرد حلم سرابيّ! حلم سرابيّ إذ لم يعد للمجتمع حضوره الأوّل بالمقابل من سطوة التجمعات السكّانية المحكومة بالعصبيات الصغيرة، والخوف من العصبيات الأخرى، وهكذا دواليك!

ماذا يعني هذا؟

 

إعادة توزيع ديموغرافي!

إنّ علامة التعجُّب الملحقة بالجملة السابقة لها ما يبررها إذا ما قيلت قبل أقلّ من عشر سنوات، رغم أنّ توزيعاً تقسيمياً كان قائماً. لكنه كان قائماً، وعلى نحو نسبي، بفعل التتابع المجرور بالتاريخ والجغرافيا، دون تجذيره في الوجدان الفردي والجماعي. لكننا اليوم، وإثر معارك التدمير والمحو اليومية الجارية في سياقات انتمائية ضيقة، وحملات التهجير القسري غير المنقطعة لمن "هُم الأضعف"، والإحلالات المدروسة بالتجميع المبني على مبدأ "الأقليات" الخائفة - أقول: إثر ذلك كلّه، ترانا نعاينُ وضعاً جديداً. وضعاً تحوّلت فيه المعازل الخارجية السابقة، التي تم تجاوزها والقفز عنها خلال عقود وعقود، إلى حواجز وخنادق تمكنت من أن تحفر لنفسها مواقعها في الوجدان!

إنه الخوف على الذات المهدَدَة،

وإنه الخوف من آخر يحمل التهديد،

وإنّ حامل التهديدذاتٌ تهجس، هي الأخرى، بمخاوفها من تهديدٍ آتٍ من آخر ثالث،

وتنفرط السُبْحة على آخر حَبّاتها!

*   *   *

 

في العام 1916، أُبرمت اتفاقية سايكس – بيكو، لترسمَ حدود دول تمّ اجتراحها في الهلال الخصيب، بتوافق قوى العالم المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وفرنسا.

بعد شهرين اثنين، يكون مضى على هذه الاتفاقية مائة سنة، وإنه اليوبيل الذهبيّ.

وها نحن اليوم حيال العدّ التأسيسي لـ"يوبيل" جديد سيتضمن إجاباته عن سؤال مستقبل دولنا، ومآلاتها المحتومة، بناءً على اتفاقيات قِوى العالم اليوم.

فلنحتفلْ!

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك